• طالب العديد من أساتذة الجامعات المصرية طوال عام 2011 بإعادة النظر فى منظومتنا التعليمية. وانطلاقاً من هذه الدعوة الكريمة المحمودة فإننى أطرح على الرأى العام ضرورة وضع خارطة طريق لإصلاح التعليم فى مصر. وأؤكد فى طرحى هذا على أهمية تحليل التجربة الكورية واستنباط الدروس الملهمة منها لإصلاح نظامنا التعليمى. وليس هذا بغريب على تجربة اعتبرتها العديد من المنظمات نبراساً منيراً ليس فقط فى مجال تطوير التعليم بل فى مجال تحقيق التنمية الاقتصادية و الوصول إلى الرفاهية البشرية، وفى نظرتها للإنسان كصانع ومبدع يغير الواقع فى البداية وكمستفيد من سياسات التنمية يتنعم فى النهاية. • ولم تكن المعجزة الكورية وليدة الصدفة. فبعد جهود حثيثة عبر أربعة عقود من الزمن نجحت كوريا الجنوبية فى أن تصبح الاقتصاد الحادى عشر فى العالم من حيث القوة. وقد لعب التعليم قبل الجامعى بصفة عامة والتعليم العالى بصفة خاصة دوراً محورياً فى انتشال تلك الدولة من بين براثن الفقر والدمار الناتجين عن الحرب الأهلية الكورية. وليس هذا بغريب على دولة يلتحق 8 .83% من طلاب المرحلة الثانوية فيها بالجامعات والمعاهد العليا وفقاً لإحصاءات عام 2008. ويعتبر تحول التعليم العالى الكورى من تعليم للصفوة إلى تعليم للجميع إنجازاً غير مسبوق تحقق خلال فترة زمنية قصيرة تقل عن ثلاثة عقود، مقارنة بخمسة عقود فى حالة الولاياتالمتحدةالأمريكية. وقد تحقق ذلك الإنجاز نظراً للسرعة الهائلة التى استطاعت بها كوريا الجنوبية تعميم الالتحاق والتخرج من التعليمين الإبتدائى والثانوى لغالبية السكان، وبمعدلات تعتبر هى الأعلى من بين دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية قاطبة. ونظراً للجهود الدءوبة التى تقوم بها الدولة والمواطنين فى كوريا الجنوبية فإن حلم التعليم العالى لجميع السكان بلا استثناء قد يتحقق فى القريب العاجل فى تلك الدولة الآسيوية القوية. ومن ثم فإن استخلاص الدروس والعبر من التجربة الكورية يمكن أن يشكل منارة تسترشد بأنوارها الوضاءة العديد من الدول النامية. • وأول العوامل التى ساهمت فى هذا الإقبال غير المسبوق على الالتحاق بالتعليم العالى هو القيمة العالية والمكانة المرموقة للتعليم فى قلوب الأبناء وعقول الآباء الكوريين. ونظراً لذلك الحب تأسست أول كلية حكومية للتعليم العالى فى كوريا عام 372م ، ثم أعيد بناؤها مرة ثانية فى عام 1398م . وقد لعبت الديانة الكونفوشيوسية دوراً كبيراً فى تشجيع الالتحاق بالمؤسسات التعليمية منذ القرون الميلادية الأولى. وفى مستهل الألفية الأولى قام عدد من الفلاسفة الصينيين مثل "تشوهسى" (1128-1200م) بإحياء الفلسفة الكونفوشيوسية بهدف إيجاد أساس أخلاقى للعالم السياسى، ونتيجة لجهوده انتعشت دراسة الكلاسيكيات الدينية الأسيوية والدراسات التأملية، وانتشرت المدارس الخاصة الملحقة بالمعابد فى الصين وكوريا الجنوبية. ثم جاء بعد ذلك الفيلسوف الكورى الشهير "يى هاوانج" (1501-1570م) الذى بدأ فى بناء أكاديمية كونفوشيوسية خاصة لدراسة الكلاسيكيات الدينية والأدب واللغة، ومازالت هذه الأكاديمية قائمة منذ افتتاحها عام 1574م وحتى الآن. • وقد أسهمت الكونفوشيوسية فى تعزيز فكرة "التميز" باعتباره المعيار الوحيد الصحيح للحكم على الفرد، ولمنحه المكانة التى يستحقها. وبالإضافة إلى هذا فقد أدت الكونفوشيوسية إلى نشر فكرة ثانية فى المجتمع الكورى، وتقوم هذه الفكرة على الاعتقاد القوى باستطاعة كل فرد على أن يكون نموذجاً أخلاقياً يحتذى به، وأن يكون قائداً فى المجتمع. ونظراً لأن التعليم هو مفتاح الكمال الأخلاقى،فإنه باستطاعة أى فرد أن يستفيد من التعليم لكى يظهر سجاياه وفضائله. وقد ساهمت هاتان الفكرتان بالذات فى تزايد معدلات الالتحاق بالتعليم قبل الجامعى. وعلى الرغم من كون الالتحاق بمؤسسات التعليم العالى فى الماضى نخبوياً، إلا أنه مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وانتهاء الحكم الإمبراطورى فى كوريا الجنوبية ظهر تيار قوى فى المجتمع الكورى ينادى بتطبيق تكافؤ الفرص التعليمية. هذا ويتمسك ملايين الكوريين الآن بهذا المفهوم بإيمان منقطع النظير، كما لا يتسامحون مطلقاً مع أى خرق لهذا المبدأ. • وتمثل الإقبال غير المسبوق على الالتحاق بالتعليم العالى فى وجود 3.5 مليون طالب، 41% منهم من الإناث يدرسون فى مؤسسات التعليم العالى المختلفة. و بالنظر إلى عدد السكان فى كوريا الجنوبية البالغ 48 مليون نسمة، وإلى وجود221 جامعة منها 43 جامعة حكومية، أصبح هناك 4.6 جامعة لكل مليون مواطن، وهى نسبة مرتفعة. ونظراً لحرص أولياء الأمور الشديد على تعليم أبنائهم كان هناك 193 ألف طالب كورى يدرسون بالخارج منهم 90 ألف طالب يدرسون فى الجامعات الأمريكية وحدها فى عام 2006، ثم زاد عدد الطلاب الكوريين الذين يدرسون فى الخارج ليصل إلى 220 ألف طالب فى عام 2008. وبالإضافة إلى هذا التوسع الكمى فإن الجانب الكيفى فى التعليم العالى الكورى متميز. وأصدق دليل على هذا أن 52% من الشباب الكورى فى سن من 25إلى34 عاماً هم من الحاصلين تعليمهم العالى بنجاح. • وثانى هذه العوامل هو التميز الشديد والجودة العالية للتعليمين الإعدادي والثانوى فى كوريا الجنوبية، حيث لا يلتحق التلاميذ الكوريون بالجامعات المرموقة إلا بعد الحصول على تأهيل أكاديمى راق ووفقاً لأعلى المستويات الأكاديمية. وتشير إحدى الدراسات التى نشرتها منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية إلى أن التلاميذ الكوريين فى المرحلة الثانوية يعتبرون من بين أفضل ثلاث دول فى العالم من حيث مهارات حل المشكلات والقدرات الرياضية الحسابية. • وثالث هذه العوامل هو التراث الفكرى الممتد للعلاقة القوية المستمرة بين المعلم المربى الحكيم وبين تلامذته وحوارييه، ذلك التراث الذى شجع العديد من الطلاب على استكمال دراساتهم العليا إقتداء بأساتذتهم. ومن الجميل جداّ أن نرى ذلك التراث الفكرى الكورى يلعب دوراً حاسماً فى تشجيع البحث العلمى، وفى تعزيز أدوار الجامعات الكورية فى بناء الاقتصاد القائم على المعرفة، وفى تدعيم التنافسية الدولية لتلك الدولة المتقدمة. • ورابع هذه العوامل هو المبادرات المختلفة التى نفذتها الحكومة الكورية لتطوير التعليم العالى بها فى العقد الأول من القرن الحادى والعشرين. ومن أهم هذه المبادرات "مبادرة عقول كوريا فى القرن الحادى والعشرين- المرحلة الأولى"، و "مبادرة عقول كوريا فى القرن الحادى والعشرين- المرحلة الثانية"، و "مبادرة مشروع الجامعة الجديدة للتجديد الإقليمى"، و "مبادرة لنربط كوريا لتعزيز الشراكة بين الجامعات والصناعة". وتهدف "مبادرة عقول كوريا فى القرن الحادى والعشرين- المرحلة الأولى 1999-2005" إلى إنفاق 1.4 مليار دولار لتحسين القدرات البحثية وتدعيم المنافسة بين الجامعات المختلفة، وقد استفاد 79 ألف طالب و166 جامعة كورية من هذه المبادرة فى تنفيذ 564 مشروعاً بحثياً، فى حين تهدف "مبادرة عقول كوريا فى القرن الحادى والعشرين- المرحلة الثانية 2006-2012" إلى إنفاق 2.3 مليار دولار لتخريج 20 ألف طالب من مرحلتى الماجستير والدكتوراة سنوياً. وقد نجحت المرحلة الثانية من هذه المبادرة فى تخريج 147 ألف طالب ماجستير ودكتوراة فى 74 جامعة قاموا بتنفيذ 569 مشروعاً بحثياً. وتهدف "مبادرة مشروع الجامعة الجديدة للتجديد الإقليمى 2004-2008" إلى تحسين مهارات الخريجين فى المجالات الصناعية، وتوفير القوى العاملة المؤهلة لإنعاش الاقتصاد الكورى فى مناطق إقليمية بعينها، وذللك عن طريق إنفاق 1.2 مليار دولار. وقد شارك فى هذا المشروع 190 ألف طالب يدرسون فى 109 جامعة وقاموا بتنفيذ 131 مشروع بحثى جماعى حتى عام 2006. وتكتف كوريا الجنوبية بذلك، بل قامت بتنفيذ "مبادرة لنربط كوريا لتعزيز الشراكة بين الجامعات والصناعة - 2006- 2010" وذلك لتقوية الشراكة بين الجامعات والصناعة، ولإنشاء كونسورتيوم لتشحيع الاختراعات الصناعية و التكنولوجية ولتعزيز البحث العلمى والتطوير، وذلك بتكلفة قدرها 150 مليون دولار. وتعنى هذه الأرقام أن الحكومة الكورية قد خصصت قرابة 6 مليارات دولار لتطوير التعليم العالى خلال العقد الأول فقط من القرن الحادى و العشرين. ولا تشمل هذه الأرقام الميزانية السنوية لقطاع التعليم العالى. وإذا علمنا أن الحكومة الكورية تخصص 5.1% من ناتجها القومى الإجمالى ، و 19.6% من إجمالى الإنفاق الحكومى بها لتمويل التعليم، فسوف ندرك حجم الدعم المالى الذى يحظى به قطاع التعليم فى تلك الدولة. • ونظراً لتضافر هذه العوامل ارتفعت المكانة الدولية للجامعات الكورية، حيث دخلت 10 جامعات كورية ضمن التصنيف العالمى لأفضل مائة جامعة عام 2008 ، وحيث احتلت الجامعة الوطنية فى سول المرتبة رقم 45 فى تصنيف جريدة التايمز لأفضل مائة جامعة فى التخصصات العلمية فى عام 2005، كما احتلت المرتبة رقم 69، ثم رقم 50 فى التصنيف الإجمالى العام فى عامى 2006، و2008. ترى متى نرى جامعة مصرية واحدة ضمن التصنيف الدولى لأفضل خمسين جامعة؟ ترى متى نضع خارطة طريق إستراتيجية لإصلاح التعليم فى مصر؟ ترى متى نبدأ فعلاً فى التخطيط الإستراتيجى لسياساتنا التنموية والتعليمية؟ ترى متى نستفيد من تجارب الآخرين التنموية الناجحة؟ "يسألونك متى هو، قل عسى أن يكون قريباً". - دكتوراة فى الاقتصاد و العلوم السياسية- اليابان