من منطلق وقائع التجربة التركية التى أتعايش معها منذ ربع قرن، أود اليوم التذكير بدور البلديات المنتخبة بإرادة جماهيرية حقيقية، فى تطوير ونهوض المجتمعات. لقد زرت القاهرة العزيزة 3 مرات منذ اندلاع ثورة 25 يناير، وسرت ودرت فى شوارع العاصمة، سيراً على الأقدام أو بقيادة سيارة أو بركوب وسائل المواصلات المختلفة. حيث وجدت نفسى فى مواجهة صورة شاهدتها فى تركيا، قبل ربع قرن ويزيد. حين كانت جبال القمامة تأخذ مكانها فى جوانب الميادين والشوارع وأسفل الجسور تزكم الأنوف برائحتها الكريهة وتلوث العيون بمنظرها البشع. صحيح أن بلديات مدينة اسطنبول كانت منتخبة آنذاك، دون أى تزوير شكلى ولكن كان هناك تزوير فى الشخصيات المرشحة وفى الوعود. كذا، كان الحال مع خطوط المواصلات العامة، حافلات قديمة جداً أو حديثة من نوع "أيكاروس" المفصلى الذى جلبه د. نور الدين سُوزَن رئيس بلدية اسطنبول عن الحزب الاجتماعى الشعبى – يسار الوسط – والتى كانت مهزلة، بكل معنى الكلمة. حيث توجه ناحية دول الكتلة الشرقية بمنطلق أيديولوجى لشراء الأرخص ودعم اقتصاد دولة اشتراكية، دون النظر للمصلحة العامة، وتجميل أسطول نقل ركاب المدينة السياحية بالحديث والأقوى والأنفع. وكانت الميكروباصات تشيع نفس شكل الفوضى الموجود الآن بشوارع القاهرة. كما عانت المدينة طويلاً من مشكلة قطع المياه وعدم توفرها بالبيوت طوال الأسبوع. حتى أن سائق تاكسى قال لى مؤخراً عن تلك الحقبة من العمل البلدى السيئ: كنا على وشك الإصابة بالأمراض المعدية، لعدم توفر المياه مع تراجع معدلات الأمطار الموسمية لكن جاء طيب أردوغان وفريقه عام 1995 لينقذنا ويحول اسطنبول لباقة زهور. هذه الصورة التى سجلت فى ذهنى عن تردى أوضاع مدينة اسطنبول، قبل ربع قرن، تعود لتطرح نفسها بقوة مجدداً أمامى، حين أسير فى شوارع القاهرة. أتربة وقاذورات وطفوح وأوحال فى شوارع وميادين مكسرة، فوضى خطوط الميكروباصات، بكل أنواعها، مع تعطيلها لحركة وسيولة مرور السيارات، بتوقفها فى وسط الشوارع أو فى نقاط مركزة على الطرق الرئيسة. سيارات مكسرة دون مصابيح، معطوبة من كل مكان، دون لوحات تحدد مسارها، ودون تعريفة محددة، تسير مفتحة الأبواب. علاوة على تلوث سمعى خطير جداً، باستخدام آلات التنبيه بشكل منفلت، بضرورة أو غيرها، حتى أن السيارات والموتوسيكلات والتوك توك، تمر من بعضها بصوت ال "كلاكس"، وتطلق آلة التنبيه بعد منتصف الليل، بل وتقوم سيارات إسعاف بإطلاق "السّرينة" وقت الفجر، مع أن الشوارع خالية (!). أما أرصفة الشوارع فقد خطفت خطفاً من المشاة واحتلت وشغلت عنوة، وصار كبار السن والمرضى والأطفال ضحايا، وأجبر المواطن على السير فى نهر الطريق معرضًا للدهس، فضلاً عن إعاقة حركة مرور السيارات. أفران الخبز وأسواق الخضار والفاكهة والأسماك، عبارة عن مزبلة، يباع الخبز والخضار والفاكهة على قارعة الطريق معرضين لكل أنواع التلوث والميكروبات. كانت تلك بعضًا من كم هائل من أمراض مدينة القاهرة التى أتحدث عنها بمرارة، لأنى عشت طفولتى وصباى فى القاهرة النظيفة والمنظمة، والمقارنة ماثلة أمامى لا تفارقنى وتؤرقنى. لم تكن القاهرة كذلك، حتى أنى كنت أستمتع صباحاً بالبيانولا فى شارع إسماعيل أباظة بوسط القاهرة، حين كان والدى يصحبنى معه لمستشفى جاردن سيتى فى أيام العطلة الصيفية، وكانت قدمى تنزلق على بلاطات الشوارع من شدة المسح والغسل والنظافة. أما الآن فلا يمكن السير حتى فى وسط هذا الشارع الموجود فيه 6 وزارات!. ما هو الحل أمام مشاكل القاهرة وأمراضها الضخمة التى أورثها إياها نظام الرئيس الفاشل والمخلوع شعبياً؟ الحل لن يكون من عمل واختصاص الحكومة أو الرئيس المنتخبين، لأنهما يهتمان بالعمل السياسى، وإنما من عمل البلديات المنتخبة، انتخاباً سليماً، يعبر عن إرادة شعبية. بحيث تتقدم العناصر البشرية صاحبة الحس الوطنى، لتأخذ مكانها فى مقاعد البلديات والتى لديها روح ثورية وخطة عمل قصيرة ومتوسطة مع جهد وصبر طويل. فى المقالة القادمة سأتحدث بإذنه تعالى عن تصورات تتعلق بالعمل البلدى، وما الذى يقوم به من تطور ونهضة وتجميل يسعد الناس ويحميها من الأمراض ويخدم السياحة.