هدف رئيسي واضح ومحدد من زيارة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل للقاهرة ، وهو معضلة اللاجئين ، التي تروع ألمانيا والاتحاد الأوربي بكامله ، وقد نجحت ميركل في علاج تلك المعضلة جزئيا مع تركيا ، وتقننت عمليات تدفق عشرات الآلاف من المهاجرين السوريين والعراقيين ومن آسيا عبر البوابة التركية ، ولكن يبقى شمال أفريقيا مخيفا لألمانيا والاتحاد الأوربي ، والبوابتان الرئيسيتان للهجرات غير الشرعية من أفريقيا هما عبر مصر وليبيا ، ولذلك كان التركيز شديدا على موضوع "الهجرة" في لقاءاتها بالقاهرة ، وأعلنت ميركل أنها دفعت مائتين وخمسين مليون دولار دعما للاقتصاد المصري ، دون معرفة أوجه الدعم أو مجاله ، وأنها ترتب لدفع مبلغ مماثل في العام المقبل 2018 وعليك خير ! وبطبيعة الحال من المفهوم أن هذه المبالغ مقابل تعهد مصري بالسيطرة على تدفق اللاجئين ومنع هذه الموجات الواسعة من التوجه إلى أوربا ، كما أن هناك أفكارا ألمانية وأوربية تذهب إلى تأسيس مراكز إيواء للاجئين الأفارقة في مصر وينفق عليها الاتحاد الأوربي من خلال الحكومة المصرية ، أي عمليات استئجار للأراضي المصرية سياسيا . اجتمعت المستشارة الألمانية مع ممثلين للمجتمع المدني المصري المغضوب عليهم ، وهو تحد وإحراج للسلطات المصرية التي تحاصر هذه المراكز ورموزها وتهددهم بالحل والمصادرة كما أن أغلبهم ممنوع من السفر ، ومن الواضح حسب ما نشر أن ممثلي المجتمع المدني "فضفضوا" مع ميركل ووضعوها في صورة المعاناة التي يعانونها في مصر بكل أبعادها ، وهو تطور جديد وجسارة لم تكن مألوفة قبل ثورة يناير ، ولاحظت أن بعض المشاركين نشروا "محضر" اللقاء بكل شفافية عبر صفحاتهم في الفيس بوك ، في إشارة إلى أنهم لا يخفون شيئا ، كما فعل الصديق الأستاذ جمال عيد ، مؤسس الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان ، وقالت لهم ميركل أنها تفهم هذه المخاوف والضغوط وخطورتها على الحرية وعلى المجتمع ، مذكرة بأنها عاشت سابقا في "ألمانياالشرقية" ، وهي إشارة موحية ومؤذية للسلطات المصرية بطبيعة الحال . لكني أتصور أن ميركل ، بهذه اللقاءات ، إنما كانت تجامل بعض الأصوات في البرلمان الألماني التي نددت بزيارتها للسيسي ، واتهمتها بأنها تبيع الحريات وحقوق الإنسان في مصر مقابل مصالح اقتصادية وقضية اللاجئين ، فأرادت أن ترد على ذلك بالتقاء نشطاء وحقوقيين ، بينما قضيتها الأساسية هي اللاجئون ، فالحقيقة أن هؤلاء القادة الأوربيين يتعاملون مع نظم العالم الثالث باعتبارهم "حرس حدود" لأوربا ومصالحها ، وبكل فجاجة يعلنون أنهم يدفعون لهم أموالا مقابل تلك الخدمات ذات الطابع الأمني بالأساس ، والمفارقة أن ميركل أثناء اجتماعها بالحقوقيين المصريين كانت حكومتها في نفس التوقيت تمنع وزيرا تركيا من الالتقاء بأبناء الجالية التركية في ألمانيا لشرح قضية الاستفتاء الدستوري الجديد ، وهو موقف يصعب استيعابه في عاصمة أوربية ، بل في عاصمة من العالم الثالث . ميركل اصطحبت معها رئيس شركة "سيمنز" الألمانية التي لها بعض الاستثمارات في مصر وتلوح بإمكانية توسعتها ودعمها ، والطريف أن هذا الأفاق تحدث في وصلة نفاق رخيص للرئيس عبد الفتاح السيسي قائلا : أنه لم ير في حياته شخصا رائعا مثل الرئيس السيسي ؟! ، وقد تفوق بذلك على إعلام المخبرين في الفضائيات المصرية ، ويبدو أن هذا المهرج قد قضى شطرا من عمره في دولة شرق أوسطية ، وكان هذا الشخص نفسه قد هزأ من الرئيس السيسي قبل عدة أشهر في ندوة عامة وأمام الفضائيات ، وقال أنه لما قابل السيسي قال له : مش ها تساعد مصر بحاجة ؟ ، فرد بحركة كوميدية أمام الشاشات شبيهة بحركات عادل إمام بوضعه يده في جيبه ليخرجها فارغة وهو يقول : أجبته بأن جيبي ليس مستعدا ، وهو سلوك منحط يفعله الصعاليك والمهرجون ولا يفعله رجال أعمال محترمون ، ولكن ، مع الأسف ، هكذا ينظر هؤلاء إلى بلادنا وقادتنا . ميركل وجهت صدمة عنيفة أخرى للسيسي وللنظام السياسي المصري بكامله ، عندما تحدثت في المؤتمر الصحفي عن ضرورة إشراك كل من دولة قطروتركيا في أي جهود لحل الأزمة في ليبيا ، وأن الاتحاد الأوربي يدعم ذلك ، وكلامها يعني أن هذا ما دار أيضا بينهما في الحوارات ، وبالنظر إلى الخلافات العميقة بين مصر من جهة وكل من تركياوقطر ، والاتهامات المتبادلة ، فإن فرض ميركل وجود الدولتين في أي جهد للحل في ليبيا ، الفضاء الاستراتيجي الحيوي لمصر والتي تقدم نفسها بوصفها التي تمسك بخيوط الأطراف الليبية ، هو خصم من الدور المصري وتحجيم له بكل تأكيد ، وتهميش لمصالحها في ليبيا ، لأن كثرة الشركاء تعني بداهة اتساع المحاصصة السياسية .