لم نفق بعد من الصدمة التى سببها لنا الأخوة المسيحيون بزياراتهم للقدس لأداء مناسك "التقديس" بعد وفاة البابا شنودة الثانى ومخالفة قراره المانع لزيارة القدس، وهى تحت الاحتلال الصهيونى، لم نفق بعد إلا وفاجأنا فضيلة المفتى على جمعة بزيارة المسجد الأقصى بالقدس، برفقة وفد أردنى رفيع المستوى، وهى زيارة تأتى فى توقيت يثير ألف سؤال، وفتحت باب جدال وفرقة بين المصريين على خلاف طوائفهم، وبين المصريين وإخوانهم المسلمين فى أنحاء العالم، ممن يرفضون زيارة أى مسلم للأقصى إلا بعد تحريره من الرجس الصهيونى. ولا يعلم أحد فى مصر أو العالم الإسلامى حقيقة الدافع "الجوهرى" لزيارة المفتى للقدس فى هذا التوقيت بالذات، الذى تغلى فيه مصر غضبا من إسرائيل بسبب اتهام الأخيرة لأهالى سيناء بإطلاق صواريخ "غراد" صوب مدينة إيلات، وتهديد نتنياهو صراحة مصر بإمكانية التحرك العسكرى فى سيناء لوقف ما سماه بالإرهاب، لردع ما زعمه من "جماعات إرهابية" فى سيناء بدعم من إيران وغيرها، كما تأتى الزيارة كما سبق القول لتتزامن من لهاث آلاف المسيحيين للسفارة الإسرائيلية للحصول على تأشيرة للسفر للقدس. وليس هذا فقط، بل تأتى الزيارة أيضًا بعد غضب إسلامى وعربى متعدد الأطراف، اشتجر منذ أسبوعين بسبب قيام الداعية الإسلامى اليمنى الأصل "الحبيب على الجفرى" بزيارة الأقصى، إذ أشعلت الزيارة جدالا وخلافًا، خاصة الذين يؤيدون فتوى رئيس الاتحاد العالمى لعلماء المسلمين يوسف القرضاوى، والذى يحرم زيارة الأقصى، وهو لا يزال تحت الأيادى الصهيونية، وأيًا كنا نتفق أو نختلف مع رؤى القرضاوى فى قضايا إسلامية أو حياتية، إلا أنه من منظور سياسى واجتماعى وأيضًا دينى للمرحلة الحالية التى تعيشها مصر من توتر وخلافات على كل شىء، لم يكن ينقصنا الآن خلاف جديد حول زيارة المفتى للأقصى. أما إذا كانت الزيارة "تكتيك" من مصر، لتقديم الطمأنة إلى إسرائيل فى المرحلة الحالية، بأننا معها، وإن مصر لن تتخذ من القرارات ما يؤارقها أو يمس اتفاق السلام، أو يمس علاقتنا بها فى كل المجالات الأخرى بما فى ذلك استمرار خطوات التطبيع التى أجبرنا عليها مبارك ووزراء حكوماته المتتابعة حتى لحظة "خلعه" من السلطة، وأيضًا طمأنتها بإزالة ما تزعم أنه يهدد أمنها فى سيناء، إذا كانت الزيارة "تكتيك" لكل ذلك، فهى مرفوضة قلبا وقالبا، وإن كانت الزيارة لحسم الجدل الثائر حول انطلاقة المسيحيين إلى القدس بعد موت البابا شنودة، فهى أيضًا مرفوضة، وإن كانت الزيارة بهدف إسقاط فتوى القرضاوى، فهذا ليس وقت صراع الفتاوى، وإن كانت الزيارة لمجرد إشباع الحنين للأقصى فاختيار توقيتها سيئ .. سيئ..، وتأتى فى ظروف نحن أحوج ما نكون فيه للم الشمل المصرى، وتوحيد جبهتنا الداخلية فى قوة لمواجهة كل محاولات إسرائيل لتهديدنا أو تفتيتنا لزعزعة صفوفنا، وإذا كانت علة المفتى هى الاستجابة لدعوة رئيس السلطة الفلسطينى محمود عباس للعرب لزيارة الأقصى كنوع من التضامن مع الفلسطينيين فى القدس، ولا عمار المسجد بالمصلين، فالاستجابة لدعوة عباس لا مبرر لها فى هذا التوقيت تحديدا لأنها تعنى قبول التطبيع، وتعنى قبول التعامل مع إسرائيل كسلطة تفرض نفوذها على القدس، خاصة أن إسرائيل تنفذ الآن مخططا لتهويد القدس، مستغلة انشغال العالم بالربيع العربى، وإذا كان يعتمد فى زيارته على عدم وجود نص قرآنى أو حديث شريف يحرم زيارة الأقصى وهى تحت أيدى اليهود، فيجب أن يتذكر سيادته أنه لا يوجد بالتالى نص قرآنى أو حديث شريف يلزمنا بزيارة الأقصى كفرض واجب وكان من باب أولى حسن اختيار التوقيت فلا أى تكتيك فى هذا الإطار مقبول، ولا أى تبرير مقبول.