تابعت كغيري من المتخصصين في الفقه الإسلامي أزمة وقوع الطلاق الشفوي، والتي أصدرت بشأنها هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف بياناً شافياً –أراه كذلك- أَلَمَّت فيه بكل جوانب الموضوع الشرعية والاجتماعية –تقريباً- فهي ناشدت الزوج عدم التسرع في إيقاع الطلاق، وناشدته كذلك سرعة توثيق الطلاق عند إيقاعه حفاظاً على حقوق المرأة ومنعاً من ظلمها، كما شددت على أن الطلاق هو أبغض الحلال، وأن الشرع يتشوف إلى الحفاظ على الأسرة، لا إلى نقضها وهدمها، كما ناشدت الهيئة في بيانها الجهات المسؤولة في الدولة رفع المعاناة عن كاهل الشعب؛ حتى لا تكون تلك المعاناة الاجتماعية والاقتصادية سبباً في كثرة وقوع الطلاق. وقد تماشى بيان الأزهر الشريف على ذلك النحو مع ثوابت الدين الإسلامي الذي يقرر وقوع الطلاق الشفوي بمجرد النطق به صريحاً دون حاجة إلى نية أو سؤال باتفاق الأئمة، كما تماشى البيانُ مع القواعد الفقهية التي تقرر أن الأصل في الأبضاع التحريم، وأنه يُحتَاطُ في أمر الفروج والدماء ما لا يُحتاط في غيرهما، إلى غير ذلك من مسلمات العلم الشرعي التي درسناها في الأزهر، وهي مسلمات قائمة على أدلة قوية رصينة، يعرفها كل من شم رائحة العلم في الأزهر. وقد تابعت لقاء الدكتور سعد الدين هلالي على إحدى الفضائيات يوم الثلاثاء الموافق 7/2/2017م، وكان موضوع اللقاء هو مناقشة بيان هيئة كبار العلماء بشأن وقوع الطلاق الشفوي، وللأسف فقد وجدت فيه كمَّاً كبيراً من التناقضات والمغالطات العلمية والمنهجية. فالمتابع للدكتور سعد في لقاءاته التلفزيونية المتكررة يكاد يحفظ عنه حديث وابصة الأسدي الذي يقول فيه: أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ لا أَدَعَ شَيْئًا مِنَ الْبِرِّ وَالإِثْمِ إِلا سَأَلْتُهُ عَنْهُ، وَحَوْلَهُ عِصَابَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَسْتَفْتُونَهُ، فَجَعَلْتُ أَتَخَطَّاهُمْ، فَقَالُوا: إِلَيْكَ يَا وَابِصَةُ عَنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فُقُلْتُ: دَعُونِي فَأَدْنُوَ مِنْهُ، فَإِنَّهُ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ أَنْ أَدْنُوَ مِنْهُ، قَالَ: "دَعُوا وَابِصَةَ، ادْنُ يَا وَابِصَةُ" مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا، قَالَ: فَدَنَوْتُ مِنْهُ حَتَّى قَعَدْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: "يَا وَابِصَةُ أُخْبِرُكَ أَمْ تَسْأَلُنِي؟" قُلْتُ: لا، بَلْ أَخْبِرْنِي، فَقَالَ: "جِئْتَ تَسْأَلُنِي عَنِ الْبِرِّ وَالإِثْمِ" فَقَالَ: نَعَمْ، فَجَمَعَ أَنَامِلَهُ فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِهِنَّ فِي صَدْرِي، وَيَقُولُ: "يَا وَابِصَةُ اسْتَفْتِ قَلْبَكَ، وَاسْتَفْتِ نَفْسَكَ " ثَلاثَ مَرَّاتٍ، " الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ، وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ، وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ" وأنا وإن كنت لا أتفق مع أستاذنا الدكتور سعد في فهمه للحديث؛ حيث لا أٌجيز لمن لا دين له، ولمن لا علم عنده، أن يستفتي قلبه؛ لأن القلب المستفتَى ينبغي أن يكون قلباً عالماً دَيِِّناً، كما أن هذا الحديث محمولٌ على الأمر المشتبه فقط، وإلا فما ثبت الأمرُ به في الشرع بلا معارض فهو برّ، وما ثبت النهي عنه كذلك فهو إثم دون الحاجة إلى استفتاء القلب، والمراد أن قلب المؤمن ينظر بنور الله إذا كان قوي الإيمان. ولكن مع ذلك فقد خالف الدكتور سعد منهجه وطالب الأزهر بالتراجع عن رأيه اعتماداً على أن الرجوع إلى الحق فضيلة، وأن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، ولا أدري من أعطى الدكتور سعد توكيل الحق والحقيقة؟ ولماذا لا يراجع هو رأيه، ويرجع عما يفتي به؟ ولماذا لا يترك للناس فرصة سماع رأي المؤسسة الرسمية التي يثقون فيها، وبعد ذلك يختارون بين رأي الهيئة ورأي فضيلته؟ إلا إذا كان سيادته لا يرى في مصر ولا في الهيئة من يستطيع الاجتهاد سواه؟ وأنا لا أرى وجهاً لاعتراضه على بيان الهيئة إلا أنه يريد أن يكون هو المتحدث الوحيد والفقيه الأوحد في مصر؛ حيث إن الهيئة لم تزد في بيانها على أن قامت بواجبها الشرعي والدستوري في الرد على بعض التساؤلات حول هذه القضية، وكان مقتضى الإنصاف منه ومن غيره ترك مساحة من الحرية لها –وهي المؤهلة لإبداء الرأي- لإبداء رأيها، وإذا أراد الدكتور سعد وغيره تكميم صوت الأزهر ممثلاً في كبار علمائه، فمن يتكلم إذن؟!! كما أن رأي الهيئة غير ملزم لعموم الناس، إلا بقدر ما لهؤلاء الناس من ثقة فيها وفي آرائها. فكنت أنتظر من أستاذنا أن يسير على منهجه –الذي لا أتفق معه فيه- في ترك المساحة لعموم الناس ليختاروا بين رأي الهيئة ورأيه، وحينها سيعلم مع من يسير الناس. ثم يزداد عجبي وحيرتي عندما أطالع مؤلفات أستاذنا –وهي كثيرة- وأرى ما بها من مناقشات وترجيحات قيِّمة، يضعِّف فيها آراءً وينصر أخرى، ولا عجب فهو أستاذ الفقه المقارن، ثم هو يريد في لقاءاته التلفزيونية أن يكتفي بعرض الآراء فقط أمام الناس دون مناقشة لها أو ترجيح بينها، ولا أدري مَنْ أصدق؛ الدكتور سعد أستاذ الفقه المقارن الذي يرجح بين الآراء في مؤلفاته ورسائله التي يشرف عليها، أم الدكتور سعد الإعلامي الشهير الذي لا يرجح بين الآراء ويترك هذه المهمة لعموم الناس وعوامهم في برامجه التلفزيونية؟! وقد اقترح سيادته –في نفس الحلقة- على الشباب وأسرهم أن يكتبوا شرطاً على ظهر وثيقة الزواج يكون مضمونه الاتفاق على عدم وقوع الطلاق إلا إذا كان موثقاً، ورأى أن ذلك هو الحل الناجع الذي يجب على الناس أن يلجأوا إليه نكاية في الأزهر وهيئة كبار علمائه الذين يريدون أن يفرضوا وصايتهم وكهنوتهم على الناس -زَعَمَ!! ونسي أو تناسى أستاذنا أن التراضي على الحرام لا يصيِّره حلالاً؛ فماذا لو تراضى رجل وامرأة على الزنا، هل يصير الزنا حلالاً بناء على هذا التراضي؟ أو تراضى الناس على التعامل بربا الجاهلية، هل يصير الربا حلالاً بناءاً على ذلك؟ إن القاعدة الفقهية المقررة تقول: إن التراضي على ما يخالف حكم الشرع باطل، ولا أظن أن هذه القاعدة تخفى على أستاذنا. كما كرر سيادته حديث النبي –صلى الله عليه وسلم: "المؤمنون عند شروطهم" أكثر من عشر مرات في الحلقة استدلالاً به على أن أي شرط يضعه الناس في العقد يجب عليهم الوفاء به، كشرط توثيق الطلاق، ولم يكمل ولو مرة واحدة بقية الحديث، والتي فيها: "إلا شرطاً أحل حراماً، أو حرم حلالاً" فالشرط الذي يحل الحرام أو يحرم الحلال لا عبرة به حتى ولو اشترطه الناس جميعاً وليس الزوجان فقط. ثم أنا أتعجب هنا من هؤلاء الذين صدعوا رؤوسنا بقبول الزواج غير الموثق وساقوا لنا الحجج تلو الحجج، بناء على أن عدم التوثيق هو الأصل، ليفتحوا باب الزواج العرفي أمام الشباب، بل هم يريدون أن يثبتوا العلاقة بين الرجل والمرأة حتى ولو لم يكن هناك زواج أصلاً، وما مشكلة "السنجل مازر" عنا ببعيد، فلماذا يصدعون رؤوسنا الآن بوجوب توثيق الطلاق؟ وأخيراً نقول: أحسن الأزهر كثيراً ببيانه الذي أصدره؛ حيث إنه فرق بين الديانة والقضاء، فهو تحدث عن الديانة، وأن الطلاق يقع بمجرد التلفظ به ديانة (بين العبد وربه) حتى ولو لم يعترف به القضاء. وأن الواجب هنا هو تنمية الوازع الديني الذي أراه موجوداً في مسألة الطلاق بالذات –بدليل كمِّ الأسئلة التي تذهب إلى دار الإفتاء وغيرها من مؤسسات الفتوى في مصر- وكثيراً ما نسمع هذه المقولة من النساء قبل الرجال عندما يحدث الطلاق: اذهب فاسأل الشيخ لأني لا أريد أن أعيش معك في الحرام، فهذا يدل على أن فطرة الناس الطيبة تتفق مع صحيح الدين في الاحتياط في أمر الأعراض، وأنهم لا يقبلون أن تقوم حياتهم الزوجية على فتوى شاذة ولا على رأي ضعيف يريد أن يفرضه هذا أو ذاك، وأنا على يقين أن الناس لن يقبلوا بهذه الفتوى على فرض صدور تشريع بها؛ لأن أحداً لا يريد أن يعيش في حرام. وعلى فرض صدور تشريع من مجلس النواب لا يعتبر وقوع الطلاق الشفوي ما لم يكن موثقاً فإن هذا الحكم سوف يكون قضائياً لا ديانياً، بمعنى أن القضاء في هذه الحالة سيسير في وادٍ والديانة والفتوى والناس سوف يسيرون في وادٍ آخر، وهذا ما لا نرضاه لأهلنا وشبابنا وبناتنا ومجتمعنا، وللحديث بقية؛ إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. دكتور/ أحمد لطفي شلبي مدرس الفقه بجامعة الأزهر الشريف