الحديث عن الديمقراطة والحرية وحقوق الإنسان حلو المذاق، تستطيبه الأذن وتطرب له النفس وتهفو إليه أفئدة من ذاقوا مرارة الاستبداد والقهر والقمع واستباحة كرامة البشر. وهذا الحديث يجيد عرضه وتسويقه بعض البشر، فلهم باع طويل فى فنون عرضه والإغراء به وتحبيب الناس فيه. فريق من هؤلاء الناس تنطلق حرارة حديثه عن الموضوع من حجم الحرمان الذى عاشه فى ظل حكم مستبد لا يعرف للرعية عدلاً ولا فضلاً، وبعضهم ينطلق فى الحديث عن ذات الموضوع من أجندة خاصة تعمل ب"رموت كنترول" يمسك به آخرون، فكأنه آلة تسجيل يضغط صاحبها بزر فتعمل أو يضغط أيضًا ليوقفه. الأجندة لدى هؤلاء تنطلق من رؤية الممول لا من رؤيتهم هم، فهم ليس لهم رؤية ولا رأى وإذا جاءت الديمقراطية بمن يخالف أجندة الممول يكفرون بها وربما يستبيحون عرضها ودمها، خصوصا إذا جاءت بالإسلاميين. عمليات النواح والولولة والتشبيح والبلطجة الثقافية التى يمارسها هؤلاء فى الصحف والفضائيات من لوازمها استعمال مصطلحات من نوع "الاستفراد، التوحش، الاستحواذ، الاستقطاب" إلى غير ذلك من مصطلحات فحش القول المخزنة والجاهزة للاستعمال عند تشويه الخصوم. جذور المشكلة لدى هؤلاء ثقافية تعود فى أصلها لقضية الهوية الفكرية والثقافية، ومن ثم فالقضية المثارة هذه الأيام ليست قضية دستور بقدر ما هى قضية جذور، وهى قضية قديمة بدأت جذورها فى أرض أمتنا بعد حلقات من الصراع السياسى بينها وبين أعدائها منذ زمن قديم انتهت بثلاثة أنواع من الإقصاء: الأول: سياسى تم بسقوط الخليفة. والثانى: تشريعى تم باستبعاد أحكام الشريعة الإسلامية واستبدال منظومتها التشريعية بمنظومة أخرى مستوردة ومعلبة فرضت قسرًا وقهرًا وهى لا تناسب البيئة. والثالث: ثقافى تم بمحاولات هدم اللغة والسخرية منها واستباحة الخطأ فيها، صاحب ذلك دعوات صريحة حينا ومغلفة أحيانا إلى التمرد على قيمنا الإسلامية، والتحريض بالخروج عليها، وتجاوز كل ما يتصل بها وبأكثر من وسيلة وتحت عناوين شتى، ومن هنا كانت عمليات التهجين والعجمة التى انتشرت حتى فى أكبر المستويات الثقافية. الإقصاء الثالث كان هو الأخطر لأنه يحفر خنادق من التجهيل تحول بين المسلم وفهم كتابه، والقدرة على استيعابه، ومعرفة مقاصده وأهدافه، واستلهام نصوصه وأحكامه وتنزيلها على واقعه وتحكيمها فى كل المجالات. معرفة البعد التاريخى تكشف لنا أطوار الصراع والتحولات التى طرأت عليه، وآليات العدو التى استعملها لكسر شوكة الأمة وتحويلها إلى أمة تابعة بعدما كانت متبوعة. فبعد أن عاد لويس التاسع من أسره فى دار القاضى ابن لقمان بمدينة المنصورة فى مصر أدرك الرجل بعد خبرة طويلة أن هزيمة الأمة الإسلامية لا بد أن تبدأ أولا ًبزلزلة ثقافتها، فكتب الرجل وصيته لمن يأتى بعده لاحتلال تلك المنطقة، وكان فى مقدمة ما ذكره لويس التاسع: أن الجيوش الثقافية أولاً قبل الجيوش العسكرية، وقد تغنيهم الأولى عن الثانية. وأن تحدد إقامة الدين، فيسجن فى المساجد فقط بعيدًا عن شئون الحياة حتى يخبو ضوءه وتخمد أنفاسه بين الجاهلين به والمنكرين له، أو بين الوحشة والضياع. أن يُحَجَّمَ تأثير العلماء المخلصين، إما بمطاردتهم داخل البلاد أو بإبعادهم عنها. الخطة تطورت كثيرًا وأضيف إليها بعد لويس التاسع إضافات أخرى حيث دخلت هندسة الرأى العام فى تطويرها. إبعاد الإسلام تم فعلا فى ثلاثة مستويات الأول سياسى والثانى تشريعى أما الثالث فكان ثقافيًا وتم بامتياز. الإقصاء السياسى بدأ بضرب الخلافة وتشويه تاريخها، والعبث بحقائقه وتصويره بأنه كان فترة استعمار درسونا ونحن صغار مساوئه أذَكِّر مرة أخرى بما قلته فى المقال السابق "إن خطر الهزيمة الثقافية بشقيها أنها تنزل بأجهزة الإنسان ذاته، وتحول أهم كيان فيه وهو "العقل" إلى مساحة محتلة، أو معتلة وعندما تحتل العقول ستحتل تبعًا لها كل الحقول، سواء كانت حقولاً زراعية أو حقولاً بترولية أو حقولاً معرفية. ولأنها فى عمق الهوية، فهى تغترب بالأجيال عن أوطانها وتاريخها، وتفضى فى نهاية الأمر إلى وجدان مفرغ من محتواه القيمى، بينما هو فى الوقت نفسه قد شُحِنَ وامتلأ بقيم الآخرين، ومن ثم فلا مشكلة لديه أن يترك مقود القيادة وبوصلة التوجيه والتأثير، ومراكز النفوذ لغيره، ممن جاء مستشارًا ومعارًا من طرف الممول. قلت أيضًا "إن القواعد الثقافية والفكرية التابعة للغرب فى بلادنا أغنته فعلا عن حاملات الطائرات والبوارج العسكرية، وكانت بمثابة الأذرع الطويلة والقوية للسيطرة على مراكز التوجيه وصناعة الرأى العام، وهى فى أيام السلم تشكل وسائل للضغط والسيطرة وضمان التبعية، بينما تشكل فى أيام الصراع وتحديات الإرادة برامج "التدمير الخفية". الإقصاء التشريعى تم باستجلاب منظومة قوانين يمكن أن يشترك فيها القانون الرومانى والقانونى الإنجليزى والقانون الفرنسى وحتى قوانين الهكسوس، واستبعاد ما قاله الله وما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ما يقوله بونابرت أحب لأتباع هذا التوجه من قول الإمام الشافعى العربى القرشى، أو الإمام الليث بن سعد المصرى موطنًا وميلادًا. نعرف أن الحكمة ضالة المؤمن لكن ما معنى أن تهمل ما عندك وبين يديك، وهو مفيد ونافع ومستوعب لكل ما تحتاج إليه، ثم تتسول من الآخرين لتكون تابعًا لهم وملتحقًا بهم، بل منسحقًا فيهم؟ أعرف أيضاً أن الآخرين لن يرفضوا أن ينضم إلى خدمهم خدم جدد. الحقل المصرى شكل بيئة مناسبة لاستقبال بذور الخلل الذى سبب للأمة ترنحًا وإعياءً على مدار سنوات طويلة. المنظمات إياها وشخصيات بعينها كانت هى الوسائل الفعالة فى هذا الاختراق، وكانت تمثل للمستعمر الوجود الآمن على أرض الوطن حيث وجوده بجنوده الحقيقيين يثير حمية الشعب ويدفع إلى المقاومة مهما كانت حالة ضعفنا وقوته، أما هؤلاء فهم من بنى جلدتنا ويتحدثون لغتنا، ومن ثم فلا مشكلة تهدد وجوده الآمن فلا مقاومة أو إزعاج من أى نوع. تسويق هذه المنظمات وشخصياتها داخل المجتمع المسلم وتهيئة الرأى العام لقبولها وربما احتضانها أحيانًا يجب أن يبدأ بإضفاء "هالة" لخلق "حالة". إضفاء هالة من التعظيم والمبالغة لخلق حالة تتجاوز مرحلة القبول لتصل لمرحلة الترحيب المصحوب بالاحترام، والشعور بالامتنان لهذه الشخصيات باعتبارها رموزًا تناضل وتدافع من أجل قضايا الشعوب وحريتها وكرامتها. مقتضيات التسويق يا سادة تتطلب عند تقديم هذه الشخصيات، أن يكون الاسم مقرونًا بلقب يتضمن "الهالة" إياها لخلق "الحالة" المقصودة، فيقول من يقدمه مثلا: المفكر السياسى الكبير، الإعلامى المرموق، الفقيه الدستورى، وهكذا تحمل أسماء هذه الشخصيات بما لم تحتمله وما لا تطيقه من ألقاب التعظيم والتقدير، الأمر الذى يزيد من الاحترام لهذه المنظمات وتلك الشخصيات ويبعد عنها شبهة التواطؤ. من ناحية الشكل يجب أن تحمل هذه المنظمات فى مبادئها أيضًا ألفاظًا براقة تغرى بالتعاون وتشد الاهتمام، وتظهر حرصًا على الديمقراطية ومصالح الوطن. لكن الديمقراطية الغبية، والحرية الملعونة ومعهما الشعب "العبيط" خانوا العهود وخيبوا ظن الكثيرين. فجلبوا لنا الصداع ووجع الرأس حين اختاروا الإسلاميين.. مالهم والسياسة، إن عليهم وحدهم أن يتفرغوا لتلقى الطعنات والضربات، والسجن والطرد والتشريد، ومصادرة الحريات والأموال. وعلى مجلس شعبهم أن يُجفّفَ ويُجمَّد، والويل له إن مارس حقه المشروع الذى فوضه فيه واختاره له الشعب العبيط، وعلى كل الأحرار من الليبراليين والعلمانيين والماركسيين أن يُكَوِّنوا ائتلافات ليضعوا فى طريقهم كل العوائق والعراقيل حتى يفشلوا، ولكى لا تتكرر أبدًا مقولة "الإسلام هو الحل"... وهكذا تكون العدالة والديمقراطية؟ وتبًا للديمقراطية حين تكون حرة، وتبًا للشعب "العبيط" حين تكون له إرادة يمارسها بحرية فيهج الخلايا الكامنة، ويثير أعشاش الدبابير، ويغضب المشير الكبير، والفريق الكبير، والسياسى المخضرم، والإعلامى المرموق، والفقيه الدستورى. ألم أقل لك عزيزى القارئ إن لحن القول الذى نسمعه الآن من "المفكر الكبير، والإعلامى المرموق، والفقيه الدستورى هو ثمرة مرة لعمليات الإقصاء لكل ما هو إسلامى بمراحله المتعددة؟ وهل تبين لك أن الأزمة الحالية ليست أزمة فى اختيار تأسيسية الدستور، بقدر ما هى أزمة فى الجذور والصدور، وليست أزمة مع العسكرى أو الجنزورى؟ [email protected]