خلال فترة "الستينات" لم تكن ثورة الاتصال قد انتشرت كظاهرة ولم تكن أدوات التواصل الاجتماعي السوشيال ميديا قد عرفت، وكانت قبضة الحاكم تنفرد بزمام المعرفة مصدرا وخبرا ومعلومة، كما كانت تمسك بكل مفاتيح التواصل بين المواطنين وبعضهم، فكل شيء كان تحت السيطرة، وقبضة النظام في السيطرة تُعِدُ على الناس أنفاسهم، وهي التي تحدد ما يقال للناس وما يسكت عنه، وكان السائد في معرفة الخبر أو الحصول على معلومة "ما "هو ما يمكن أن نسميه بوحدانية المصدر الإعلامي في التلقي والتوجيه والانفراد بالسيطرة في تشكيل عقول الناس، وساعد الظرف السياسي في المحيطين العربي والإقليمي النظام الحاكم في مصر على استمرار هذا الوضع. ففي المحيط العربي تحررت أغلب شعوب المنطقة من الاستعمار وإن بصورة شكلية، وفي المحيط الإقليمي كانت الدول الإفريقية ترى في مصر وزعيمها نموذجا للتحرر والاستقلال، وفي المحيط الدولي وجدت زعامات من الوزن الثقيل ارتبطت بعبد الناصر وارتبط بها ، حيث كان جواهر لال نهرو في الهند، وكان جوزيب بروز تيتو في يوغسلافيا، وكان كوامي نكروما في غانا وأحمد سوكارنو في اندونيسيا بالإضافة إلى عبد الناصر في مصر وكون هؤلاء الخمسة ما يعرف بمجموعة دول عدم الانحياز التي بدأت بعدد 29 دولة ثم انتهت لما يقرب من 118 دولة فيما بعد . كانت الفكرة من وراء حركة عدم الانحياز تحمل كثيرا من النبل الإنساني الذي يصب في حماية حقوق الشعوب واستقلالها وتحررها من الاستعمار وسيطرته وتأييد حق تقرير المصير، ومعارضة الفصل العنصري، والكفاح ضد الاستعمار بكافة أشكاله وصوره الظرف السياسي في المحيط العربي والإقليمي والدولي ساعد أيضا على بروز شخصية عبد الناصر كزعيم عربي وكرمز للنضال والدعوة إلى التحرر، ليس في مصر وحدها وإنما في دول العالم كله، وكانت مصر في ذلك الوقت قد خرجت من تحت الاحتلال الذي استمر أكثر من 70 عاماً !! (1882 – 1956م). شعب مصر كان مهيأ ومتطلعا من الناحية النفسية والاجتماعية لقبول زعيم من أبنائه بعد معاناته من الاحتلال وخدمه وأعوانه، وساعد على ذلك ما كان يتمتع به عبد الناصر من "كاريزما" جسدت قدرته على صياغة مواقف وطنية جسورة ربطت الشعب به كزعيم ، ومن ثم دارت حوله الأساطير لتؤكد مكانه كقائد ملهم، ومكانته كزعيم يتفرد بحب الشعب له القرب من الحكام في الأغلب الأعم يكون محفوفا بالمخاطر لأنها منطقة صراعات لقوى لا يحكمها قيم ومن ثم فهي لا تخلو من غدر. وقليلون هم من يدخلون هذه المناطق وتكون لهم القدرة على أن يجعلوها مأمونة العواقب. في فترة عبد الناصر، كانت الحياة في مصر ثرية ومترعة بالمواهب في شتى المجالات، وكانت هناك مجموعة من الرواد في الصحافة والأدب والفنون وكان الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل قد فهم شخصية عبد الناصر بشكل دقيق، فقد نجح في أن يتوارى بقدرة هائلة خلف عبد الناصر ويتفادى كل أنواع الصراع، حيث اكتفى بموقعه كصحفي واعتز به، وجعل طموحاته بعيدة عن ميادين صراع الآخرين وأهدافهم، وظل في دأب يتفانى في تكريس مفهوم الزعيم الملهم الذى فجر ثورة الشعب وقاد مسيرتها. وبذكاء شديد ممنهج ومحترف استطاع هيكل أن يحظى بالثقة المطلقة من عبد الناصر، لدرجة أنه تمكن من الاطلاع والاحتفاظ بنسخة من أي وثيقة مهما كانت درجة سريتها وحساسيتها، ومن ثم فقد أضحي وبشكل غير مباشر شريكا للضباط الأحرار في الثورة، وليس ذلك فقط، بل إنه سخر مواهبه لفلسفتها وشرحها وتسويق أهدافها. وبمرور الأيام أصبح هيكل يملك كما هائلا من المعلومات، ذلك بالإضافة إلي قدرته الصحفية الهائلة على الصياغة ورصيده الضخم من اللغة بجمالياتها وبلاغتها وبراعته في الاستعمال والتصوير الفني وتوظيف المفردات وصناعة المصطلحات وتسويق الأفكار وكانت مقالته الإسبوعية "بصراحة" تمثل موقف النظام من أي قضية مطروحة للنقاش. ولكل هذه الأسباب وغيرها تمكن الرجل من القرب من عبد الناصر، حتى أصبح عراب الثورة ومفكرها. وجاءت الرياح بما لا يشتهي السفن ، حدثت حرب 1967 وأتذكر ونحن طلاب في المرحلة الإعدادية أن الإعلامي الأشهر أحمد سعيد رائد أذاع علينا من إذاعة صوت العرب أنباء الانتصارات في صباح 5 يونيو 1967، وساعتها رقصنا فرحا وفخرا عندما علا صوته أثناء الحرب قائلا " إن نسور الجو المصرين أسقطوا في الساعات الأولى لحرب يونيو 67 مائة وخمسين طائرة إسرائيلية , بينما كان الواقع على الأرض يؤكد أن طارئتنا كلها قد دمرت في مرابضها قبل أن تحلق في السماء. أصيب النظام في مقتل، وكانت الهزيمة شديدة الوقع ، فطعمها مر ومذاقها علقم ،وتجرع الفرعون الأكبر لأول مرة مع الشعب كأس المرارة وبدأت الثورة تأكل أبناءها، وأعلن الزعيم قرار تنحيه عن الحكم. ولعب الإعلام المحترف هنا بقيادة هيكل وإن من خلف ستار - وأعنى به الإعلام الذي يملك رؤية من خلال فرسان الكلمة الذين يملكون ناصية التعبير ويستطيعون بالكملة ذات التأثير الفعال أن يصنعوا رأيا وأن يحددوا موقفا وأن يشكلوا ضغطا وأن يجيشوا حشودا لتخرج إلى الشوارع والميادين في مظاهرات عارمة تطالب الزعيم الذى تنحى نتيجة الهزيمة العسكرية أن يبقى وأن يستمر. كتابات هيكل وفريقه في مؤسسة الأهرام وغيرها من وسائل الإعلام كانت تمثل رافدا وطنيا ممزوجا ببريق يخطف الأبصار ويشحن المشاعر بالوطنية ويوظف شعارات المرحلة بذكاء شديد لِتُكَوِّنَ في الوجدان الوطني دافعا شعبيا يلتف حول القيادة في براعة وتفان قل نظيره وكان لابد أن تفلسف هذه الهزيمة وأن ترتدي ثوبا آخر يخفف الكارثة ويقلل من الشعور بالعار، وهذه المهمة ذات الأبعاد النفسية والمعنوية والاجتماعية لم يكن يستطيع القيام بها أحد غير الكاهن الأكبر، "محمد حسنين هيكل" ولذلك وقع اختيار الفرعون عليه ، ليتولى مهمة التبرير والتحوير والتغيير وليجعل من أهم أسباب الحرب علينا أننا نحظى بأعظم قادة التاريخ، وأن العدو يستكثر علينا وجود زعيم بهذا القدر، ولذلك تتأمر الدنيا كلها على مصر، والشعب البطل أفشل خطة الحرب ، لأن هدف العدو لم يكن مصر وجيشها، وإنما كان الهدف هو الزعيم، والزعيم قد بقي ولم يذهب ، حتى وإن ذهبت الأرض واحتلت أجزاء من الوطن وتغيرت خريطة البلاد الجغرافية . الكلمة هنا وبصرف النظر عن كونها استخدمت في حق أو في باطل، إلا أنها تحدثت باسم الشعب، وأمرت الزعيم أن يبقي، والغريب هنا أيضا أن الكلمة حملت الشعب مسؤولية الهزيمة لأنه لم يصغ لتوجيهات الزعيم وحكمته، وأنها باسم الشعب ترجو الزعيم أن يبقي وسيستمع له الشعب وتستجيب مصر لحكمته . واستبدل لفظ الهزيمة بلفظ نكسة.!!! قم واسمعها من أعماقي فأنا الشعب ....ابق فانت السد الواقي لمنى الشعب إبق فأنت الأمل الباقي لغد الشعب. قم إنا جففنا الدمع وتبسمنا ، ...قم إنا أرهفنا السمع وتعلمنا ...، قم إنا وحدنا الجمع وتقدمنا. قم للشعب وبدد يأسه ،... واذكر غده واطرح أمسه.. ، قم وادفعنا بعد النكسة ، وارفع هامة هذا الشعب.... إبق فأنت حبيب الشعب. وبدلا من أن يحاكم الفرعون بتهمة تضييع الوطن والسبب في الهزيمة تحول إلى بطل تاريخي، وعندما أعلن تنحيه عن الحكم خرج الناس في الشوارع والميادين يطالبونه بالبقاء والاستمرار، ومن ثم فقد تعرضت العقلية العربية عامة والمصرية بالذات لأكبر عملية تجريف في التاريخ حيث تم تحوير القضية وتحويل الاهتمامات لتتجذر حول بقاء الزعيم ، ولعب الفن هنا دورا كبيرا في اللعب بمشاعر الناس ومسخ عقولهم ومسح أفكارهم ابق فأنت الأمل الباقي لغد الشعب أنت الخير وأنت النور، أنت الصبر على المقدور، أنت الناصر والمنصور قم إنا أعددنا العدة.. قم إنا أعلينا الوحدة ...، فارسم أنت طريق العودة...، وتقدم يتبعك الشعب إبق فأنت حبيب الشعب ........حبيب الشعب.. دم للشعب. عشنا هذه الظاهرة ونحن في مرحلة الطفولة زمن القبضة الواحدة الباطشة بقوة والكاذبة بذكاء واحتراف. وبرغم وحدانية المصدر في التوجيه والتلقي وصياغة الرأي العام إلا أن حبل الكذب قصير كما قلنا، حيث انكشفت الكذبة وتبين لنا أن سياسة وخطط الزعامات الملهمة كانت سببا في هزيمة جيوشنا هزيمة ساحقة دون الدخول في حرب حقيقية. وبرغم هذه الهزيمة المرة كانوا يرددون على مسامعنا رغم الجرح ومر الكأس "عاشت مصر". الكلمة في الستينات رغم كل ما رسمته في معانيها من تمجيد للزعيم، إلا أنها كانت مزينة ببريق يخطف الأبصار بجماله وبيانه وبلاغته، كما كانت محملة بحالة من الكبرياء الوطني الذي يرفض الهزيمة ويصر على مكان القيادة والريادة لمصر شعبا وزعيما وتاريخا، ذلك بالإضافة لعناصر الجمال والإبداع والترفع عن السقوط وعن الترخص والبذاءات. في العصر الحديث ، ورغم تغير الظروف وثورة المعلومات، إلا أن النظم الدكتاتورية لا تؤمن بأن الكذب "ملوش رجلين" فتحاول جاهدة أن تصنع للكذب رأسا وساقا وأرجل صناعية، والجهات المسيطرة على الأذرع الإعلامية حاليا لا زالت تعيش بعقلية نكسة 5 يونيو 67 فتبني للكذب حظيرة ورعاية ورعاة، وقنوات فضائية وتجند له كائنات تكاد تشعر أنهم ليسوا من جنس البشر من حجم سماكة جلودهم وفراغ عقولهم وهشاشة منطقهم، وفقدانهم لأي إحساس. تستمع إليهم وتشاهد برامجهم وحواراتهم فتصيبك الدهشة من حجم الخبل والتفاهات التى تسيطر عليهم، وتكاد تستلقى على ظهرك من كثرة الضحك على جهلهم وما يمارسونه من خرافات، وما سقطوا فيه وهبطوا إليه من كذب وسخافات، غير أن إحساسا بالرغبة في البكاء ينتابك عندما تتذكر أن هذه الوجوه الكالحة تتحدث باسم مصر فتسيئ إليها وتقزم دورها تاريخا وحضارة ورسالة، وهي التي توجه شعبها فتسقط وعيه وتهين عقله، ومع ذلك تحذرك من هدم الدولة ، وتردد على مسامعك أيضا " تحيا مصر" المفتي العام للقارة الأسترالية