شاهدتُ بالصّدفةِ المدعو الفريق السّيسي يلقي خطبةً على خريجي إحدى الكلّيّات العسكريّة في القاهرة مؤخرًا. تعجبتُ حقًّا من مَنْظَرِ الرّجلِ، وطريقةِ كلامِهِ، وشخصيّته. فقد ظهر بزي عسكري مزركش جدًّا، فيه الأحمر، والأصفر، والذّهبي، والكاكي، والأسود. وكانَ يتحصّنُ وراءَ نظّارةٍ سوداءَ سميكةٍ، لا أعرف لماذا. وتحدّث بطريقةٍ تنمّ عن ضحالةِ فكرهِ، وَضَعْفِ عقلِهِ، وضيقِ أفقِهِ. وبدا شخصًا باهتًا بدونِ شخصيّةٍ، بل كانَ مِنَ الواضحِ أنّه يريدُ أن يتقمّصَ شخصيّةً أعظمَ منه بكثيرٍ. وبعدُ. كنتُ قد قرأتُ في أحدثِ كتبِ مستشارِ ألمانيا الاتّحاديّة الأسبق هيلموت شميدت وصفًا دقيقًا لهؤلاء العسكر الّذين ينصبون على شعوبهم بمثلِ هذه الأزياء المزركشة، حيث شبّههم بالطّاووس المتباهي بريشه المتعدّد الألوان. تذكّرت الأزياء المثيرة للضّحك الّتي تعوّد القذّافي أن يرتديها، دون أن تُنقذه من مصيره المأساوي المحتوم. فيا أيّها المغتالون بالأزياء المزركشة، اتّعظوا من مصير من سبقكم، وتعلّموا من هلاك من كان أكثر منكم بطشًا، وأشدّ قوّة. وبعد. شَكْلُ الرّجلِ أصابني بالتّقزّزِ والغثيانِ. استنكفتُ من طريقة كلامه، واستجدائه تأييد الحاضرين بمخاطبة عواطفهم. لمحتُ الفقرَ المدقعَ الّذي يبدو عَلى أسرِ الخريجينَ. وَلَيْسَ هذا بمستغربٍ، فالفقر تفشّى بشدّةٍ في مصرَ، وجعلَ النّاسُ ترى في الكلّيّاتِ الحربيّةِ خيرَ وسيلةٍ لانتشالِ نفسها من مستنقعِ الفقرِ المميتِ. عندما يجوعُ النّاسُ، ويعانونَ من الإملاقِ، لا يفكّرونَ في الوطنيّةِ، أو الجنديّةِ، أو العسكريّةِ، بل ينصّبُ تفكيرُهُم على شيءٍ واحدٍ هُوَ: كيفَ نتخلّصُ من الفقرِ، وننجو من الجوعِ؟ وعندئذٍ تبدو كلّيّات عسكر مصر الحربيّة طوقَ نجاةٍ لقطاع كبيرٍ من فقراءِ مصرَ. شيءٌ مروّعٌ فعلًا. وبعدُ. سرعان ما اكتشفتُ بعد ذلك أن المدعو السّيسي يمارسُ الكذبَ، والدّجلَ، والتّضليلَ، ببراعةٍ. فقدَ قال وادّعى كذبًا وبهتانًا أنّه مع الشّعبِ. وهي مقولة مطّاطة جدًّا، سمعناها من قبل كثيرًا من رفاقه العسكر من أمثالِ طنطاوي وعنّان، لنكتشف بعدها أن لفظَ «الشّعب» عندَ العسكرِ يعني «أسر الجنود وضبّاط الجيش فقط»!! ثمّ جعل المدعو السّيسي يُدلّسُ ويضلّلُ، فادّعى كذبًا وبهتانًا أنّه كان جنديًّا باسلًا يقاتل من أجل مصالح الشّعب الغلبان ضدّ جماعة الإخوان الإرهابيّة، وأنّه بعثَ بوسطاء إلى الرّئيس محمّد مرسي، لكي يقنعوه بحكمة المدعو السّيسي، وثقب رؤيته، وضرورة الأخذ برأيه حتّى لا تنجرف مصر إلى حرب أهليّة!! وسرعان ما اكتشفنا أيضًا كذبَ هذه الادّعاءات السّخيفة، حين كذّبها الوسطاءُ من أمثال العوّا وقنديل. وبعدُ. لكن ما صدمني حقًّا هو هشاشةَ شخصيّة هذا الرّجل، وتفاهته البالغة، وركاكة لغته العربيّة، وضحالة ثقافته. أهذا حقًّا هو وزير دفاع جمهوريّة مصر العربيّة؟ سؤالٌ مشروعٌ جال تلقائيًّا في خاطري عندما رحتُ أسترجعُ المشهدَ الّذي رأيته أثناءَ حفلِ تخريجِ دفعةٍ جديدةٍ من إحدى الكلّيّات الحربيّة في مصر. تساءلتُ عن سرّ اختيارِ مثل هذه الحثالات لشغل أرفع المناصب في مصر. وبعد. تذكّرتُ خبرًا نشرته بعضُ وسائلِ الإعلامِ قبلَ عدّة أسابيع يقول إنّ المدعو السّيسي قد اجتمع بالمدعو محمّد حسنين هيكل أكثر من مرّة في مبنى وزارة الدّفاع. فهمتُ مِنَ الخبر أنّ الأوّلَ معجبٌ بالأخيرِ. تعجّبتُ من مدلول الخبر وفحواه، خاصّة أنّني كنتُ قد قرأتُ أنّ المدعو السّيسي قد تلقّى دورات تدريبيّة في الولايات المتّحدة الأمريكيّة، فظننتُ أنّه قد تعلّم، وتثقّف، وتهذّب، وأصبح أكثر علمًا ومعرفة من هؤلاء الّذين لم يدرسوا في الخارج. لكن الأيّام أثبتت لي أنّني كنتُ واهمًا مخطئًا. فقد قرأتُ لاحقًا أنّ المدعو هيكل كان أحد مهندسي الانقلاب المشؤوم الّذي قام به عسكر مصر بقيادة المدعو السّيسي على النّظام الشّرعي الدّيمقراطيّ في مصر في الثّالث من يوليو 2013م. أيقنتُ عندئذ أنّ المدعو السّيسي عقله ضعيفٌ جدًّا، وذكاؤه محدود جدًّا، وعلمه قليل جدًّا، وثقافته ضحلة جدًّا. فليس يُعجبُ بشخص مثل المدعو محمّد حسنين هيكل إلّا ناقص عقل، أو جاهل، لأنّ محمّد حسنين هيكل هو ببساطة أكبر مضلّل في تاريخ مصر الحديث. وبعدُ. أستطيعُ أَنْ أتخيّل أذن أنّ المدعو هيكل الّذي ظلّ يُنظّرُ لاستبدادِ عبد النّاصر منذ انقلاب 1952م، قد انتهزَ هذِهِ الفرصةَ الذّهبيّةَ ليُخضع المدعو السّيسي لعمليّة غسيل مخ شاملة، أوهمه من خلالها أنّه خليفة عبد النّاصر، وزعيم الأمّة العربيّة الملهم، بل والمهدي المنتظر الّذي سوف يلهبُ حماسَ الجماهير من المحيط إلى الخليج. والمصيبة هنا أنّ المدعو السّيسي لا يتمتّع بذرةٍ واحدةٍ ممّا كان يتمتّع به عبد النّاصر من الكاريزما وقوّة الشّخصيّة. هذه حقيقة لابدّ مِنَ الاعترافِ بها، برغم إيماننا الرّاسخ بأنّ عبد النّاصر هو مؤسّس أسوأ ديكتاتوريّة عسكريّة عرفتها مصر منذُ فجرِ التّاريخِ. يستطيعُ المدعو السّيسي أن يُحاولَ تَقَمّصَ دور عبد النّاصر، مثلما يحاول معه المدعو حمدين صباحي تقمّص الشّخصيّة نفسها. لكن الفرقَ بين عبد النّاصر الدّيكتاتور، والمدعو السّيسي، أو المدعو صباحي، هو كالفرق بين السّماء والأرض. يُذكّرني هؤلاء الّذين يحاولون تقمّص شخصيّات أكبر منهم وأشدّ بأسًا بقصّة الحمار الّذي سأم من استحقار النّاس له، وضجرَ من استهزاء الحيوانات به، فقرّر أن يتقمّص شخصيّة النّمر الرّهيب، طلبًا للهيبة المفقودة، وطمعًا في الاحترام الغائب. فوضع على ظهره جلد نمر، متوهّمًا أنّ ذلك يكفي لتحويل الحمار الحقير إلى نمر رهيب. في البداية انطلتِ الحيلة على بعضُ الحيوانات الضّعيفة الّتي أظهرت للنّمر المزعوم الاحترام المطلوب. لكن الثّعلب المكّار اكتشف هذه الحيلة الرّخيصةَ، فلم يتردّد في فضح الحمار، وأنهى بذلك مغامراته الصّبيانيّة. فهل يمكن للمدعو حمدين صباحي، أو المدعو السّيسي، بل وعسكر مصر كافّة، الاتّعاظ من هذه الحكمة البليغة، والكفّ عن المغامرات الدّنيئة؟!! وبعدُ. معذرة، أيّها القارئ الكريم، على المقدّمات المسهبة، والإطالات المضجرة. ودعني أدخل الآنَ مباشرة في الموضوع، وهو كشف المخابرات الأمريكيّة عن أسباب دعمها المدعو السّيسي. تفاهةُ عقل المدعو السّيسي جعلتني أفكّرُ في أسبابِ اختيارِ الغرب لهذه النّوعيّة من الرّجال لكي تقود مصر، وتحكمها. تذكّرتُ ما كتبته من قبل عن المخلوعِ: «لماذا يفضّلونه حمارًا؟». قابلتُ بالصّدفة صديقًا أمريكيًّا في أسبانيا. سألني عن أسباب حزني ودوافع كربي. قلتُ: «أريد أن أعرف كيف يقومُ الأمريكيّونَ باختيار رؤساء مصر؟» هزّ صاحبي رأسه، واستغرقَ في التّفكيرَ قليلًا. ثمّ قالَ: «مدير المخابرات الأمريكيّة الأسبق هو أحد أصدقائي. سأتّصل به اليومَ، وأطرحُ عليه سؤالك». شكرتُ صديقي على حرصه على خدمتي ومساعدتي في وقت الشّدّة والمعاناة. في اليوم التّالي ذهبت أزور صديقي في فيلته الأنيقةِ في منطقة ماربيا الشّهيرة. استقبلني بحفاوةٍ وترحابٍ، ودعاني إلى الجلوس في حديقة فيلته بجوار حمّام السّباحة. نظر إليّ صديقي بإشفاقٍ، قبلَ أن يقولَ: «لن تصدّقَ ما سأقوله لك»!! قلتُ: «هات ما عندك»!! قال: «أبلغني مديرُ المخابرات الأمريكيّة الأسبق بشيء غريبٍ، بل صادم ومخيف»!! قلتُ: «ماذا قال لك، يا صديقي؟» فردّ قائلًا: «تحرصُ المخابرات الأمريكيّة على اختيار أسوأ الرّمم والحثالات، لتتولّى قيادة مصر وزعامتها»!! قلتُ: «هذا يعني أنّ السّادات لم يكن يمزح حين قال إنّه يريد حمارًا ليكون نائبًا مطيعًا له»!! قال: «هذا صحيح. بل إنّ الأمريكيّين هم الّذين اختاروا مبارك ليكون نائبًا للسّادات»!! قلت: «وكيف يقرّر الأمريكيّون درجة غباء الشّخص الّذي يبحثون عنه ليُصبحَ زعيمًا لمصر؟» فقال: «لن تصدّق ما أخبرني به رئيسُ المخابرات الأمريكيّة الأسبقُ»!! قلتُ: «لماذا؟» فقال: «دعني أوّلًا أوضّح لك أن مصطلح (حمار) الّذي استخدمه السّادات إشارة إلى مبارك، هو مصطلح غير شائع في لغة المخابرات الأمريكيّة». قلت: «فما هو الشّائع إذن؟» قال: «هم يستخدمون مصطلح (عقل فرخة)»!! فنظرت إليه متعجبًا، بعدما شعرتُ بدهشةٍ شديدةٍ. فاستطردَ صديقي قائلًا: «الشّرط الأساسيّ الّذي تضعه المخابرات الأمريكيّة لأي شخص يريدون اختياره رئيسًا لمصر هو أن يكون عقله أتفه من عقل فرخة»!! فاشتدّت دهشتي، وزاد استغرابي وتعجّبي من هذا الكلام الغريب الّذي لم أسمعه من قبل في حياتي. أشفقَ صديقي عليّ، وجعل يخفّف من وقع الصّدمة على نفسي. سألته: «لكن أخبرني، أيّها الرّجل، كيف يمكن قياس تفاهة عقول النّاس؟» ابتسم صديقي ابتسامةً معبّرةً، توحي بأنّ الصّدمة لم تنتهِ بعدُ. ثمّ استطردَ قائلًا: «أتتذكّر كيفَ كَانَ القدماء المصريّون يقومونَ بقياس أعمال موتاهم في الآخرة في (كتاب الموتى)؟» قلت: «كَانُوا يضعون أعمالَ الميّتِ في كفّة الميزان، ويضعون في الكفّة الأخرى رمزَ العدالة (ماعت)». قال: «بالضّبط. ويبدو أنّ هذا الأسلوب الفرعونيّ القديم قد أثار إعجاب المخابرات الأمريكيّة، وألهمها. فقرّرت اتّباع أسلوبٍ مشابه لقياس درجة ذكاء الشّخص الّذي يريدون اختياره رئيسًا لمصر»!! فازددت تعجّبًا من هذا الكلام الغريب والتّفكير العجيب، ورحتُ أسأل: «وكيفَ يكونُ هذا؟» فردّ صديقي قائلًا: «تقومُ المخابراتُ الأمريكيّةُ بوضعِ عقلِ فرخةٍ مذبوحةٍ حديثًا في كفّةِ الميزانِ، وتضعُ في الكفّة الأخرى عقلَ الشّخصِ الّذي يريدونَ تنصيبَه رئيسًا لمصرَ». قلتُ: «أنتَ تمزحُ، أليسَ كذلك؟» فراحَ صديقي يُقسمُ بشرفه، ويحلفُ بربّه، أنّه لا يمزحُ، ولا يخادعُ، بل يقولُ الحقَّ، وينقلُ الواقعَ. قلتُ: «لكن كيفَ يمكنُ أن يضعوا عقلَ من يريدونَ قياسَ درجةِ ذكائه في كفّةِ الميزانِ؟» فردّ قائلًا: «يقومونُ بإخراجِ عقله من رأسِهِ، بطريقةٍ تكنولوجيّةٍ حديثةٍ، يستخدمونَ فيها أشعةَ اللّيزر، وبدونِ أيّ جراحةٍ. فيضعونَ عقلَه في إحدى كفتي الميزان، ويضعون في الكفّة الأخرى عقلَ فرخةٍ مذبوحة حديثًا. فإذا رجحت كفّة عقل الفرخة، عرفوا أنّ عقل من يريدون اختياره رئيسًا لمصر أخفّ من عقل الفرخة، فأيقنوا أنّه هو الشّخص الّذي يبحثون عنه، ويريدونه رئيسًا لمصر»!! سألتُ صديقي: «ومتى فعلوا هذا مَعَ المدعو السّيسي؟» فأجابَ قائلًا: «عندما كَانَ يتلقّى دورة تدريبيّة في الولاياتِ المتّحدةِ الأمريكيّة». لم أصدّق ما أسمعه، ورحت أنظر إلى صاحبي مستغربًا مستفسرًا متسائلًا. لكنّه تلقّى اتّصالًا هاتفيًّا مهمًّا، اضطرّه إلى الاعتذار عن مواصلة حديثه معي، فتركني غارقًا في دهشتي، مستغرقًا في ذهولي، وتوارى بعيدًا عن الأنظار. بحثتُ عنه وراء الأشجار السّامقةِ، فلم أجده. تقفّيتُ أثره بينَ الثّمارِ اليانعةِ، فلم أره. فتّشتُ عنه بينَ الطّيور المغرّدة، فلم أسمعه. سألتُ عنه الببغاوات المازحة، فضحكتُ منّي وقالت: لم نره.