"صديقي الحمار" هو تعبير مشهور للقديس الإيطالي فرنسيس الاسيزي (1181-1226 م) الذي كان معروفًا بحبه للحيوانات وعطفه عليهم، وأما هذا التعبير المذكور فكان يشير به إلى جسده في إيحاء أنه كما أن الحمار يحمل صاحبه وتظل القيادة للراكب عليه، فكذلك الجسد أيضًا يحمل الروح بينما ينبغي أن تبقى القيادة للروح. أما عن ما بيني أنا والحمار- أي حمار - فهى علاقة يمكن أن تسميها علاقة احترام وإعجاب وصداقة، فالحمار يحتل في قلبي منذ عقود منزلة الحيوان المفضل بلا منازع، ولعل ذكر بعض من حميد صفاته سيجعلك، عزيزي القارئ، تنافسني في صداقتي هذه للحمار؛ فحدٍث ولا حرج عن قدرته على العمل الدؤوب وقلة اعتراضه على ثقل الأحمال الرهيبة كما يقول المثل المصري "حمار حصاوي"، وأضف إلى ذلك وداعته وتواضعه بحيث يترك الكبرياء والعظمة لآخرين مثل الحصان أو حتى البغال، ولعل هذه الخصلة بالذات كانت هى السبب وراء اختيار الرب يسوع المسيح له لكي يحمله في رحلته إلى بلدنا الحبيبة مصر وأيضاً عند دخوله الملوكي إلى أورشليم. لكي لا أطيل عليكم، فأنا كلما رأيت حماراً أمتلئ فرحاً كمن رأى صديقاً عزيزاً بعد طول غياب، ولطالما تخيلت حواراً مع هذا الحيوان الذي أرى في وداعته حكمة يحتاجها الكثيرون. ثم جاءت المقالة الرائعة لأستاذي (ولن أقول صديقي) مدحت قلادة في ديسمبر الماضي بعنوان "مناظرة بين حمار وسلفي"، لتساعد في إنضاج فكرة هذه السلسلة التي أتمنى ان تكون مساهمة إيجابية لخير مصر. التقيته أثناء خروجي اليومي للنزهة في المكان الريفي الذي أعيش فيه، كنت أسير منكب الرأس مهموما بحال مصر في هذه الأيام مثقلاً بأخبارها، فإذا به في مواجهتي، لاحظته عندما رفع رأسه المدفوسة في حشائش الحقل، صوب أذنيه تجاهي للحظة قبل أن تنشغل بأصوات أخرى آتية من الشارع القريب، حبست أنفاسي متمتعاً برؤيته.. بالرغم من شكله الوديع فإنه يشع مهابة وحكمة بل ومحبةً، للحظة رأيت في عينيه هو أيضاً نظرة حسبتها فرحاً باللقاء، لعل "الاستلطاف" متبادل؟ أردت.. كما يتعامل الأصدقاء، سؤاله عن حاله "كيف حالك ياصديقي؟". حين خرجت الكلمات من فمي كان قد استدار كمن سيمضي في طريقه ولكنه فجأة وقف واستدار إلي كمن يفهم معني كلامي.. "أتعرف انه يسعدني الحديث معك؟" قلت مستطرداً "اعتدت أن أجد ذكاءً في من يظنهم الناس أغبياء، فهل أجد لديك بعضاً من هذه الحكمة؟"، فجأة أحسست أنني غبي وتحركت لكي لا أستمر في حوار عبثي. "ألا يهمك ردي على سؤالك؟" أتى صوت أجش من خلفي حيث كان الحمار واقفاً، استدرت للحمار منتفضاً "هل تستطيع الكلام؟" "لن تستطيع أبداً أن تعرف إن كان هذا كلامي أنا أو تهيؤاتك أنت"، أجابني الحمار بينما ذيله يتحرك في وقار "على العموم فالحيوان الوحيد الذي تكلم في كتابك المقدس كان أيضاً حمار". "نعم أعرف هذا، بل وكنت أعلم هذه القصة للأطفال في الكنيسة، كيف فات عني ذلك" أجبت مندهشا. "نعود إلى سؤالك عن الحكمة" قال لي الحمار كمن لا يريد إضاعة وقته "أغبى الخلق هم من يرون أنفسهم أذكياء وكل الآخرين أغبياء"، قلت له "وهل ترى مثالاً على ذلك في مصر؟"، "نعم.. فمن يظنون أنفسهم أسياد البلد الآن هم أسوأ مثال على ذلك". "عندك كل الحق يا صديقي" قلت مؤكداً على كلامه "أرى أنك تشير إلى المجلس العسكري الذي ادعى أنه حامي الشعب ولم يحفظ كلمته، هو فقط يحمي الكرسي الذي يجلس عليه ولا مانع عنده حتى من بيع مصر كلها في سبيل السلطة"، أجاب الحمار "نعم.. وفي غبائهم بات واضحاً لكل حمار أن العسكر يكنون للشعب كل الاستهانة بل والاحتقار وإلا لم يكن ليفضح كذبه هكذا"، "نعم هم يتعاملون مع الشعب المصري كأنه قطيع من الحمير". "سأتغاضى عن ما في هذه الجملة من سباب مستتر لجنس الحمير في سبيل هذه الصداقة الوليدة"، قال الحمار في عتاب لطيف أحسسني بالخجل من هذا الحيوان الوديع "ولكن المجلس العسكري ليس هو الوحيد الذي يرى نفسه سيداً على البلاد" استطرد الحمار "هل تقصد الإسلاميين؟"، "الإخوان والسلفيون هم أيضاً يصولون ويجولون كأنهم يجلسون بالفعل على البردعة، بلغتنا، ويدلدلون أرجلهم"، ثم استطرد بنبرة من الغضب أدهشتني "هم يكذبون ويعطون كلاما معسولاً بينما تاريخهم ملآن كذباً ونفاقاً، فهم لديهم كل الألوان من التصريحات الجاهزة بحسب الموقف، فحين ينافقون يستدعون مواقف وكتابات مسالمة ومعتدلة بينما يحتفظون بالتعنت والتجبر في داخلهم حتى ينالوا مرادهم، والأسوأ من ذلك هو احتقارهم للديمقراطية التي أعطتهم فرصة القفز على البردعة، قلت حزيناً "للأسف هذا مبدأ التقية الذي برعوا في استخدامه". لاحظت فجأة بعض التململ في وقفة الحمار وأدركت أن طقس الشتاء قد نال من الحمار وأن وقت الحوار آن إلى النفاد، فقلت له "أتسمح لي أن أكتب عن هذا اللقاء؟" "وهل ستجد أحداً مستعدأً للتعلم من حمار؟"، أجاب في دماثة "ولكن إحذر وإلا قالوا عنك حمارًا"، ثم أضاف "كما أنصحك بتغيير عنوان المقالة وإلا انفض عنك كل أصدقائك حتى لا يلصق بهم لقب لا يريدونه"!