ما يحدث في حلب ، العاصمة الثانية لسوريا ، وأكبر مدنها ، عاصمة الشمال ، حلب الشهباء بكل تاريخها وحضارتها ، أقدم مدن العالم ، هو أمر تشيب له الولدان ، من فرط بشاعته ، والتي وصفتها الأممالمتحدة اليوم في بيان رسمي بأنها "الإنسانية تموت في حلب" ، فالنظام الوحشي الذي يقوده آل الأسد ترك المدينة نهبا مستباحا لميليشيات طائفية إيرانية وعراقية ولبنانية تصفي أحقادها مع الأهالي ، بعد أن دخل المناطق الشرقية من المدينة التي كان يسيطر عليها بعض فصائل من المعارضة ، بعد طول استعصاء عليه لمدة ثلاث سنوات ، فقاموا بعمليات ذبح جماعي للنساء والأطفال وحرق الأحياء واقتحام البيوت واغتصاب النساء ، وفق تقارير رسمية للأمم المتحدة ، واختيار عائلات كاملة كانت معروفة بأنها من معارضي بشار الأسد ثم يبادون جميعا بإعدام جماعي فوري في الميادين ، كل ذلك وسط قصف متواصل بالطائرات والمدفعية والصواريخ على بقعة صغيرة ما زال يتحصن فيها بعض المسلحين ، قدرتها روسياوالأممالمتحدة بأنها لا تتجاوز ثلاثة كيلومترات مربعة ، الأعمال الوحشية البربرية التي تتم للشعب السوري المعارض لبشار الأسد فجيعة إنسانية حقيقية ، يتبرأ منها الجميع الآن ، الأمريكيون والفرنسيون ، والبرلمان البريطاني قرر عقد جلسة طارئة لمناقشة الفظائع التي تجري في سوريا اليوم ، والأممالمتحدة وصفت ما يجري بأنه جرائم حرب وحشية . المؤسف في هذا كله أن العواصم العربية ، خاصة العواصم التي شهدت ثورات الربيع العربي في غفلة عجيبة عما يجري في سوريا ، رغم أنها من ذات الرحم ، رحم الربيع العربي وأشواقه للحرية والعدالة والكرامة والديمقراطية ، غير أن الشعب السوري كان التحدي أمامه أكثر جسامة وقسوة ، لأنه لا يواجه نظام ديكتاتوريا وفقط ، بل نظام طائفي تعتبره إيران عمود الخيمة في مشروعها الشيعي للمنطقة الممتد من لبنان إلى سوريا إلى العراق إلى البحرين إلى اليمن ، ولذلك دخلت إيران بثقلها العسكري الحرب إلى جوار بشار عندما اهتز نظامه ، فلما انكسرت دخل الروس بكامل عتادهم وأحدثه ، من طائرات وصواريخ وسفن حربية ومدمرات وحاملات طائرات وقوات خاصة وخبراء استطلاع واستخبارات ، وأنشأت لها قواعد عديدة في الساحل السوري ، وحصلت من بشار على توقيع على إخلاء ذمة جميع العسكريين الروس في سوريا من أي مسئولية قانونية عن جرائم أو وقائع تصدر منهم أيا كانت ، وهي اتفاقية مهينة ، غير أن بشار المنهار لم يكن يملك الاعتراض أو التحفظ . كان على ثورة الشعب السوري أن تواجه كل هذه الجحافل ، وليس جيش بشار فقط ، والذي انهزم فعليا وكان شبه مستسلم في العام 2013 ، قبل أن تأتي له إيران بالميلشيات العراقية الشيعية مثل عصائب الحق ، والميليشيات اللبنانية مثل حزب الله ، وميليشيات الهزارة الأفغان الشيعة ، بخلاف قوات الحرس الثوري الإيراني ، ثم لما صمد ثوار سوريا أمام هؤلاء جميعا وكسروا شوكتهم ، تدخل الروس بكامل ثقلهم فغيروا المعادلة على الأرض خاصة عندما وضعت واشنطن فيتو على مد الثوار بمضادات طيران ، وحذرت كلا من تركيا والخليج من تقديم هذا السلاح تحديدا ، فأصبح الفضاء السوري مستباحا للطيران الروسي الذي كان يصب الحمم فوق المدن بكل سهولة ، وخاصة حلب بما فيها الصواريخ الفسفورية المحرمة دوليا ، وكل ذلك كان يشاهد بالتصوير الحي على شاشات الفضائيات . لم تكن الثورة السورية تعاني هذا الثقل وحده ، بل نجح بشار في تنمية وتقوية منظمات متطرفة مثل داعش ، وسمح لها بالتوسع المحسوب وترك لها أحيانا مخازن ذخيرته في المناطق التي انسحب منها ، حتى توحشت وشنت حملات عسكرية ضارية على شباب الثورة السورية ، كما تسببت في تشويه صورة الثورة ، وانشغال المجتمع الدولي بالحديث عن خطر داعش وليس عن جرائم بشار ، وإن كان الأمر بدأ ينكشف أخيرا ، والتقارير تتحدث بصراحة عن التحالف غير المعلن بين بشار وداعش . ثورة الشعب السوري هي ثورة من أجل الحرية ، قادها رموز فكرية من شتى التيارات ، ليبراليين وقوميين وشيوعيين وإسلاميين ومسيحيين وحتى نشطاء من الطائفة العلوية التي ينتمي إليها بشار الأسد ، وقد استخدم بشار وجيشه منتهى العنف والدم في مواجهتها في البداية ، عندما كانت مجرد مظاهرات وأهازيج وأغاني ورقص في الميادين تغني للحرية ، فبدأ الانشقاق في صفوف جيشه بعد أن رأوا أنهار الدم ، ثم رويدا رويدا تحولت الثورة السلمية إلى ثورة مسلحة ، ثم تفاقمت الأمور بعدها بتدخلات إقليمية متشعبة ، ودفع الشعب السوري وما زال يدفع ضريبة الدم . ليس لدي أدنى شك في أن ثورة الشعب السوري ستنتصر في النهاية ، فهي تملك من المشروعية ومن الإصرار والتضحية ما يعينها على ذلك بعد عون الله ونصره ، ولكنها مسئولية كل ذي ضمير حي ، وكل إنسان ، وخاصة كل مؤمن بالربيع العربي وحق الشعوب في الحرية والكرامة ، أن يتضامن مع محنة هذا الشعب وأن تعلو الأصوات فاضحة للديكتاتور الدموي المجرم بشار الأسد الذي ورث الدولة وأجهزتها من أبيه في مسرحية سخيفة جرى فيها تعديل الدستور في نصف ساعة ليكون على مقاسه ، الإنسانية لا تتجزأ ، ولا يمكن أن تطلب الحرية لنفسك وأنت تخذل آخرين يناضلون من أجلها ، ما يحدث في حلب هذه الأيام عار على الإنسانية كلها ، وكل من يصمت أمام هذه الجرائم الوحشية أو يحاول تبريرها بوجود إرهابيين لا يمثلون أكثر من خمسة في المائة من مجمل قوى الثورة ، حتى من يصمت فهو شريك في الجريمة ، هو شيطان أخرس .