يتقلّب الناس فى نِعم الله الكثيرة ولكن القليل منهم هو الشاكر قال تعالى [وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ] [سبأ/13] فنِعم الله لا يحصيها أحد من خلقه فهى متنوعة فى ذاتها متفرعة فى تفاصيلها قال تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ] [إبراهيم/34] وبالرغم من كثرة النعم التى تحيط بالعباد فإنهم يألفون وجودها فينسون فضل المنعم، فالماء فى الصنبور والطعام فى الثلاجة والشمس تطلع كل يوم والقلب ينبض بالدماء والمعدة تهضم الغذاء والأنف يُتنفس بها الهواء واللسان ينطق بالكلام وهكذا فأصبحوا لا يلتفتون إلى كل هذه الأفضال ولا يشعرون بأهمية ما أنعم الله علينا به من خيرات، خاصة أن هناك مَن يعاند الله ويبارزه بالمعاصى وهو سبحانه يرزقه ويكسوه لكون الدنيا لا تساوى شيئًا عنده كما جاء فى الأثر [لو كانت الدنيا تساوى عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء] فإذا أراد العبد أن يعرف هل الذى جاءه من خيرات هو نعمة من الله أم نقمة؟ عليه أن ينظر فى حال نفسه فإن كان على الطاعة شاكراً لنعمائه فهى نعمة، قال تعالى [وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ] [إبراهيم/7] أما إن رأى أنه مقارف للذنوب عاكف على المعاصى ومازالت النعم من حوله تموج فهو فى حالة نقمة واستدراج من الله تعالى [فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ] [الأنعام/44]، وقال تعالى [وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ] [الأعراف/182، 183] فعلى العاقل أن يتدبر ذلك ويتعامل مع النعم كأنها إبل فى الصحراء كما جاء فى الأثر [النعم أوابد فقيدوها بالشكر]، وهنا تتم صيانة النعمة والمحافظة عليها. ومما لا شك فيه أن الإنسان يفرح عند حلول النعم, ولكنه لا بد أن يكون فرحه لكونها جاءت من عند الله, وليس لمجرد النعمة فى ذاتها, بل لكون المنعم راضيًا عنه, وأن يدعو ربه بالتوفيق إلى استعمال النعمة فيما يرضيه, فإن أنعم الله على أحدٍ بمال, عليه أن يبذله فى أوجه الخير والبر, وليس فى الشر والعدوان, وكذلك لا ينبغى أن ننسى أن لدينا نعماً كثيرة تستحق الشكر المتواصل بأداء حق الله فيها مثل :- نعمة العقل.. فهو الذى يُعرف به طريق الهداية إلى الله فيسلكه ويُعرف به سبل الشيطان فيجتنبها, يتفكر به فى ملكوت السماوات والأرض فيتعظ, ويواصل الاجتهاد فى الطاعة، يعرف به المصالح من المفاسد، يستعين به فى فهم واجباته وأدائها, ولا يستخدمه فى المكر السيئ والمؤامرات والمكائد, بل فى أوجه الخير النافعة للناس.. نعمة البصر.. يؤدى حقها بالنظر فى خلق السماوات والأرض, فيزداد إيماناً على إيمانه, بل عليه أن ينظر بها إلى كتاب الله فيداوم على المطالعة فيه, وكذلك فى سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم, كى يعمل بها ولا يمد عيناه إلى ما فى يد غيره, أو ما لا يحل له النظر إليه فلا ينظر إلى محارم غيره, ولا يقلب أوراق أخيه بغير إذنه وليعلم أنه جُعل الإذن للبصر. نعمة اللسان.. وحقها عليه أن يداوم على ذكر الله تعالى والكلام الحسن بعيداً عن فحش القول وبذيئه, وقول الزور والكذب والبهتان والغيبة والنميمة, وأن يصدع بكلمة الحق والصدق, لا يخشى فى الله لومة لائم.. وليحذر ما جاء فى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وهل يكب الناس في النار على وجوههم - أو قال على مناخرهم - إلا حصائد ألسنتهم؟}. نعمة اليد وحقها أن يكسب بها من أوجه الحلال, وأن يجاهد بها فى سبيل الله ويدفع عن المظلوم, وينصر الضعيف, ولا يضرب بها أحداً من خلقه تعدّياً عليه، وأن أسرع ما يعاقَب به العبد فى الدنيا قبل الآخرة البغى وعقوق الوالدين وليوقن أن مَن بغى سرعان ما ينتقم الله منه جاء فى شعر الحكمة: وما يد إلا ويد الله فوقها وما ظالم إلا سيبلى بظالم نعمة الرجل وحقها أن يمشى بها إلى مناسك الحج وإلى المساجد, ويسعى عليها فى كسب الرزق الحلال, وقضاء حوائج الناس, ويقف عليها عند أداء الصلوات بين يدى ربه, ولا يسعى بها فى فتنة أو فساد بين الناس, أو أسفار المعصية التى حظرها الشرع.. نعمة الأذن وحقها أن يسمع بها كلام الله تعالى, وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكلام أهل العلم من أئمة الدين, ليتعرف على الواجبات المنوطة به، ولا يعطى أذنه لمغتاب, أو نمام, أو خائض فى الأعراض, أو لمبتدع أو لجاهل أو كاهن أو عراف, ونحو ذلك من أهل الضلال.. وهكذا كثير من النعم لا تكاد تحصى وهى تحتاج إلى شكر دائم يبلغ مقام الكمال باتباع الشرع ولزوم سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم والإخلاص لله تعالى وصدق التوجه إليه. هذا وصلى الله على سيدنا محمد