ما يُسمى ب "الانتخابات المنشئة للتحول" هي ربما أهم خطوة على طريق أي عملية تحول ديمقراطي، وتلك باختصار هي أول انتخابات ديمقراطية تعقب فترة الحكم السلطوي، وبالتالي فمن المفترض أن تنشئ لمرحلة جديدة من الحكم، تكون أكثر ديمقراطية وانفتاحًا من سابقتها. بطبيعة الحال، تتحكم بنية النظام السياسي فيما إذا كانت الانتخابات "المنشئة" التشريعية أم التنفيذية هي ذات الأهمية النسبية الأكبر. إلا أنه يمكن القول إنه متى تم إجراء انتخابات رئاسية مباشرة، فإن النظام يخلق منصبًا يكون له وزن سياسي كبير، حتى لو كانت صلاحياته الدستورية غير موسعة؛ فهو في نهاية الأمر، منصب يُنتخب شاغله من مواطني الدولة جميعهم، وبالتالي يستطيع أن يدعى بأن له تفويضًا مباشرًا وواسعًا، لا يتوافر لأي شاغل لأي منصب سياسي آخر في البلاد. تلك مقدمة ضرورية للإشارة إلى الأهمية الكبيرة لعملية انتخاب شخص رئيس الجمهورية في أول انتخابات من نوعها لدولة تمر بعملية تحول ديمقراطي، فهي من جهة عملية لانتخاب ربما أهم منصب سياسي في الدولة، ومن جهة أخرى انتخابات ضرورية لتثبيت عملية التحول ذاتها. وبالنظر إلى النماذج التي تم رصدها في إطار هذه العملية في دول الربيع العربي، من الممكن التمييز بين نمطين مؤسسيين رئيسيين في إطار عملية انتخاب أول رئيس في فترة التحول؛ نموذج الانتخابات الرئاسية التنافسية، ونموذج الانتخابات الرئاسية التوافقية. سأقوم فيما يلي برصد أولًا: الاختلاف الرئيسي بين النموذجين، وثانيًا: عرض نظرة تقييمية سريعة لكل منهما، وثالثًا: العوامل التي ربما تؤدي إلى تغليب تبني أي منهما على الآخر في إطار كل دولة. أولًا - الاختلاف الرئيسي بين النموذجين: الاختلاف الرئيسي بين النموذجين المشار إليهما أعلاه هو اختلاف في درجة التنافسية السياسية المصاحبة لكل منهما. ففي إطار الانتخابات التنافسية، يتم الانتقال بالبلاد من مرحلة تنافس سياسي مقيد – أو أحيانًا معدوم – نحو درجات أعلى من التنافس السياسي، يسري عليها مفهوم "عدم اليقين المنظم"، بمعنى أن الجميع يعرف البدائل المتاحة، إلا أنه لا أحد يعرف يقينًا أي هذه البدائل سيتحقق في النهاية. في المقابل، فإن نمط الانتخابات التوافقية يحول دون تحقيق تلك الدرجة العالية من التنافسية، حيث تتلاشى وفقًا له درجة عدم اليقين هذه، وتصبح النتائج معلومة مسبقًا، حيث يتم التوافق ما بين القوى السياسية الأهم في المجتمع على شخص معين، ترى هذه القوى أنه الأصلح في تولي هذا المنصب في الفترة الانتقالية التي تمر بها البلاد، ويتم طرحه كمرشح وحيد (الحالة اليمنية) أو تعزيز مركزه الانتخابي بالمقارنة بالمرشحين الآخرين، عن طريق إعلان القوى السياسية الكبرى دعمها له، كما كان التفكير في فترة ما سابقة في الحالة المصرية. وفي كلتا الحالتين، فإن الانتخابات، سواء أجريت أم لا، تأخذ طابعًا شكليًا باعتبار أن النتيجة تكون محسومة إلى حد ما قبل يوم الاقتراع ذاته. ثانيًا – نظرة تقييمية: بالانتقال من التعريف إلى التقييم، لعل من أهم إيجابيات نموذج الرئيس التوافقي – التي هي في الوقت نفسه أهم سلبيات النموذج التنافسي – تقليل ظاهرة الغموض السياسي المصاحبة للانتخابات التنافسية، التي تكون لها آثار سياسية واقتصادية غير محدودة، خاصةً في مرحلة التحول. فكل الدول العربية التي شهدت تحولًا في إطار ظاهرة الربيع العربي حتى الآن – تونس، ومصر، واليمن، وليبيا – منيت بخسائر اقتصادية ضخمة، وإن كانت ليبيا هي الأكثر قدرة على التغلب السريع على هذه التبعات، لأن مواردها البترولية قادرة على تعويض هذه الخسائر على مدى زمني أقصر. إلا أنه في كل هذه الحالات، فإن هناك تدهورًا اقتصاديًا كبيرًا قد حدث، ينبغي التعامل معه بسرعة، وهو وضع قد يضره، لا يصلحه، انتخاب رئيس في إطار انتخابات تنافسية، بلا توافق مسبق على الفائز بها. حيث إن الانتخابات التنافسية، وفقًا للتعريف تقريبًا، تزيد من فترة عدم اليقين، وتؤجل قرار الاستثمار الأجنبي في الدولة، وقد ترجئ أيضًا أي مساعدات خارجية من دول أجنبية، أو مؤسسات دولية، لحين اتضاح الرؤية، وانتهاء حالة السيولة الانتقالية بتسلم شخص لمفاتيح السلطة في الدولة، أو على الأقل عدد مهم من هذه المفاتيح. في المقابل، فإن أهم سلبيات نموذج الرئيس التوافقي هي ما ذُكر أعلاه من خاصية تكبيل المنافسة السياسية على أهم منصب في الدولة حتى إشعار آخر، وهو أمر قد يثير إشكاليات حول ما إذا كان التحول الديمقراطي قد اكتمل أم لًا. وقد يعزز ذلك مدى قرب الرئيس التوافقي الجديد من النظام السياسي السابق وقياداته – كما هو الحال في اليمن على سبيل المثال – فشغل منصب الرئيس الجديد من قِبَل شخص كان يشغل منصب نائب الرئيس السابق لسنوات طوال، قبل لحظة التحول، يثير علامات استفهام كبيرة حول مدى عمق التحول الذي حدث. ولعل ملاحظة شكلية مهمة في الحالة اليمنية تشير إلى المدى الذي كانت وفقًا له المنافسةُ السياسية محسومةً مسبقًا، حيث إن بطاقة الاقتراع لم تكن فقط متضمنة لاسم مرشح وحيد، ولكن كان مطبوعًا عليها أيضًا أمام صورة هذا المرشح شعار حملته الانتخابية : "معًا نبني المستقبل". ثالثًا - العوامل المؤثرة في احتمالات تبني أي من النموذجين: بالانتقال إلى محاولة تفسير احتمالات تبني أي من النموذجين دون الآخر، يمكن بصورة عامة، وبتحليل العوامل المصاحبة للنموذجين في دول الربيع العربي المطبقة لهما حتى الآن، تلخيص العوامل المؤدية لتبني أي نموذج فيما يلي. 1. سلطات منصب رئيس الجمهورية: عندما يكون منصب الرئيس ذا سلطات محدودة، تشريعية ودستورية عمومًا، فإن حجم الخلاف الذي من المتوقع أن يدور حول شخصية شاغل المنصب لا يُتوقع أن يكون كبيرًا. إلا أنه في المقابل، كلما زادت سلطات الرئيس القادم، وكلما كان متوقعًا أن يكون لاعبًا أساسيًا في اللعبة السياسية في فترة ما بعد الانتخابات، كانت هناك دوافع أقوى من كل تيار لإظهار تفضيله لمرشح معين، ومحاربته لأجل تمرير هذا التفضيل، وبالتالي تتضاءل فرصة تبني نموذج الرئيس التوافقي. لعل ذلك أحد الأسباب الرئيسية التي رجحت اتباع النموذج التوافقي في تونس، حيث إن الرئيس أصلًا لا يُنتخب عن طريق انتخابات رئاسية مباشرة، ومن ثم فإن صلاحياته – وفقًا للنظرية المؤسسية في نظم الحكم – غير موسعة، لأنه لا يملك تفويضًا مباشرًا من الناخبين. إلا أن هذا الأمر قد لا يبدو متحققًا بالدرجة نفسها في الحالة المصرية، حيث إن هناك إقرارًا – حتى الآن على الأقل – بأنه ستتم انتخابات رئاسية مباشرة، وأن شكل نظام الحكم سيكون قريبًا من النظام المختلط، الذي يملك فيه الرئيس صلاحيات غير قليلة، وبالتالي فإن شخصية من سيتولى هذا المنصب ستكون لها تبعات مهمة. ومن هنا، فإن الصراع حول المنصب أكبر، ومن ثم لا يُتَوقع أن يغذي الدافع نحو تبني النموذج التوافقي علة أن المنصب لا يشكل أهمية كبيرة في كل الأحوال. 2. هيكل القوى السياسية القائم: يؤثر أيضًا في احتمال تبني نموذج الرئيس التوافقي مدى وجود قوى مؤثرة في عملية الاختيار لا تملك تأثيرًا قويًا في الانتخابات العامة، ولكنها عنصر فاعل في هيكل القوى السياسية، وهي قوى قد تكون داخلية أو خارجية. فمن مصلحة هذه القوى ألا تكون عملية اختيار الرئيس متروكة تمامًا لصندوق الاقتراع، الذي لا تملك عليه تأثيرًا يوازي تأثيرها في إطار التفاعلات السياسية غير الرسمية، ومن ثم تحاول هذه القوى الدفع نحو نموذج "الرئيس التوافقي"، الذي يقلل من الأهمية النسبية – بل وأحيانًا قد يلغي تمامًا – لدور صناديق الاقتراع في تحديد شخصية الرئيس القادم، ويعطي دورًا أكبر للتفاعلات غير الرسمية بين القوى السياسية. من الممكن تطبيق هذا المنطق على حالتي مصر واليمن، باعتبار أن القوة غير الرسمية في الحالة المصرية هي قوة داخلية تتمثل في المؤسسة العسكرية. وفي الحالة اليمنية هي قوى خارجية متمثلة في كل من دول الخليج المجاورة، وبعض الأطراف الدولية ذات المصلحة، وعلى رأسها الولاياتالمتحدةالأمريكية. ففي الحالة المصرية، لا يوجد للمؤسسة العسكرية تأثير كبير في توجهات الناخبين. فهي من جهة، لا تستطيع أن تعلن علنًا تأييدها لمرشح بعينه بصورة صريحة. ومن جهة أخرى، لا تملك قدرات لتعبئة ملايين الناخبين يوم الاقتراع. إلا أنها في الوقت نفسه، لا تريد أن تكون مستبعدة تمامًا من أي تأثير في عملية اختيار رئيس الجمهورية القادم، ومن ثم فإن الدفع نحو النموذج التوافقي يمثل المسار الأفضل لهذه المؤسسة. بالمثل، في الحالة اليمنية، فإن القوى الإقليمية والدولية لا تملك تأثيرًا كبيرًا في عملية انتخابية تنافسية، إلا أن لها مصلحة كبرى في عدم قدوم رئيس جديد في اليمن قد يضر بمصالحها، بحيث إما أن يخلق دولة مناوئة لدول الخليج في باحتها الجنوبية، أو ألا يتخذ المواقف نفسها المناهضة للخلايا المسلحة المنتشرة في عدد من المناطق في اليمن، كما كان يفعل الرئيس السابق على عبد الله صالح. 3. عمق الاستقطاب السياسي القائم: بالإضافة إلى ذلك، فإن أحد أهم هذه العوامل أيضًا هو مدى الاستقطاب القائم بين القوى السياسية المختلفة الموجودة في الدولة. فتعاظم هذا الاستقطاب يضع القوى السياسية على مسافات أيديولوجية كبيرة من بعضها بعضًا، وبالتالي يقلل من احتمالات التلاقي عند نقطة وسطية، تسمح بالتوافق على شخص معين لشغل منصب الرئيس بصورة توافقية، كما هو الحال في مصر- على سبيل المثال- فيما يتعلق بالاستقطاب المتزايد بين القوى المدنية من جانب، والقوى ذات المرجعية الدينية من جانب آخر، بل واستقطاب داخلي بين قوى كل معسكر. فنموذج الرئيس التوافقي في أساسه هو عملية وصول إلى قرار مشترك من قِبَل قوى سياسية متعددة، وأحيانًا مناوئة، وبالتالي يُشترط لتطبيقه الاشتراطات التقليدية لعملية صنع القرار، وأولها مدى وجود قواسم مشتركة بين المشاركين في عملية صنع القرار هذه. قد يؤثر في درجة الاستقطاب هذه عامل آخر مهم، وهو الفترة الزمنية التي يتم فيها بداية الجدل بشأن انتخاب رئيس جديد للدولة. فكلما بعدت هذه النقطة الزمنية عن لحظة نهاية النظام السابق – وتلك يتم تعريفها شكليًا بلحظة تنحي رئيسه عن سدة الحكم – زاد هذا الاستقطاب، نظرًا لأن لحظة التوافق السياسي والمجتمعي التي تصاحب عملية الثورة لا تلبث إلا أن تنتهي، وتبدأ بعدها مساحات الاختلاف بين القوى السياسية في الظهور. وكلما أُعطيت فترة زمنية أطول تسمح لهذه الخلافات بالتزايد، زاد الاستقطاب، وبالتالي باتت مهمة التوافق على اسم معين لشغل منصب الرئيس أصعب. وذلك الوضع قد ينطبق على مصر أيضًا، حيث إن الانتخابات الرئاسية المُنشئة سوف يتم إجراؤها على الأرجح بعد قرابة عام ونصف عام من لحظة تنحي الرئيس السابق. 4. الثقل السياسي للشخصيات صاحبة الرغبة في الترشح: قد يكون للشخصيات التي تعلن ترشحها لمنصب الرئاسة هي الأخرى أثر على احتمال تبني نظام على الآخر، حيث إن هذه الشخصيات قد تكون بطبيعة الحال عوامل مناهضة لفكرة الرئيس التوافقي، وربما تكون هذه هي أحد المبادئ القليلة التي يجتمعون عليها. ففي مرحلة لا يضمن فيها أي منهم أن يكون هو ذلك الرئيس التوافقي، وتجنبًا لصراع إلى القاع، يحاول فيه كل منهم تقديم تنازلات للقوى السياسية المؤثرة سعيًا وراء أن يتم التوافق عليه هو، يكون من الأسلم أن يقوم كل منهم برفض الفكرة من حيث المبدأ. وهنا تبرز أهمية الثقل النسبي لهذه الشخصيات. فمتى كانت هذه الشخصيات لها ثقل سياسي وإعلامي، ودرجة من المصداقية لدى الرأي العام، بصورة تجعلها تنجح في نقد – أو حتى "تلويث" – فكرة الرئيس التوافقي إعلاميًا ومجتمعيًا، قلل ذلك من احتمال تبني هذا النموذج. بمعنى آخر، كلما كانت القوى التي لديها إجماع مصلحي على عدم تبني هذا النموذج، وبالتالي فهي تتحرك ضده، ذات ثقل سياسي غير قليل، اقتربت الدولة بصورة أكبر من نموذج الانتخابات الرئاسية التنافسية. ولعل ذلك ما ينطبق على ما حدث في الحالة المصرية من تحرك سريع، وفي أيام قليلة، من خلال تصريحات إعلامية قوية، من قِبَل مرشحي الرئاسة المحتملين ضد فكرة الرئيس التوافقي، مما دفع بعض القوى التي كانت ربما تدفع في اتجاه هذه الفكرة، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين، إلى نفيها، على الأقل علنًا. وفقًا لأساسيات البحث في العلوم الاجتماعية – ومنها قطعًا العلوم السياسية – يجب عدم إسقاط أحكام قيمية لتفضيل خيار على الآخر، وإلا فقد الباحث درجة مهمة من حياده. فلا يمكن، على سبيل المثال، الدفع بأن نموذج الرئيس التوافقي أفضل لأنه أكثر ديمقراطية، أو العكس. إلا أنه في الوقت ذاته، فمن الممكن الاستناد إلى مؤشر رئيسي مهم بعيدًا عن الأحكام القيمية، وهو درجة رضا المواطن/الناخب على النموذج الذي يتم اتباعه في دولته , لعل من أهم مؤشرات درجة الرضا هو مستوى المشاركة السياسية، وعلى الأقل أبسط صور هذه المشاركة المتمثلة في شكل التصويت. تشير الملاحظة إلى أن توافر هذا المعيار لا يشترط بالضرورة وجود انتخابات تنافسية محتدمة. فنسبة التصويت في الانتخابات اليمنية الأخيرة قاربت ال60%، بالرغم من وجود مرشح واحد فقط، وربما يكون عليه الكثير من المآخذ. إلا أن خروج هذه النسبة الكبيرة، التي حصل على تأييد 99% منها، في انتخابات حرة إلى حد كبير، مؤشر رضا أولي، أو على الأقل مؤشر عدم اعتراض مبدئي على طريقة الانتخاب تلك. ولكي يتم إجراء مقارنة عادلة، سيكون من المفيد ترقب نسبة المشاركة في الانتخابات الرئاسية المصرية المزمع عقدها في صيف عام 2012. المصدر: الإسلام اليوم