كشفت حكاية (ثلاجة السيسي) عن المستوى الذي وصل إليه كثير من الإعلاميين الموالين الذين تسابقوا في الردح والبذاءة وقلة القيمة بما لا يليق بدولة في حجم مصر!. ولا يختلف اثنان على أن الإعلام المصري (الذي تربى على يدي صفوت الشريف وأمثاله) كان- ولا يزال- بعيد كل البعد عن الشفافية والصدق.. بل وعن المهنية العادية والتنافس الأمين. لقد أظهرت التناقضات الحادة والقرارات والتصرفات المتضاربة بين الحكومات المتعاقبة في السنوات الخمس الماضية؛ كشفت تهافت الإعلام وتفاهته.. إذ نجد الموقف أو الرأي وعكسه من الشخص نفسه، حيث يشيد ويهلل ويدافع- بلا خجل- عن مسئول مثلا، وينسى أو يتناسى الموقف (العكسي) السابق الذي كان يتبناه بإصرار معه أو مع غيره في أحداث شبيهة!. وعلى الرغم من افتضاح هذا السلوك المتخلف بفضل الإعلام البديل الذي ينشر بكفاءة وحرفية هذه التناقضات بالصوت والصورة على مواقع التواصل الاجتماعي.. مازال كثير من الإعلاميين يواصلون هذا المنهج المدمر، لدرجة شيوع مصطلح غريب يتهم الإعلام (باستحمار) الشعب. ولا شك أن الشعب أذكى منهم بكثير، وأنه غير قابل للاستحمار كما نشاهد يوميا.. ولكنهم يستغلون أنصاف المتعلمين وأرباع المثقفين (ومنهم للأسف أساتذة جامعيون!) لترويج الأكاذيب والشائعات. إن هذه الأزمة الخانقة لمصر توجب على المخلصين من أهل الرأي والحكمة البحث عن أسباب وجودِ مثل هذا السلوك المنحرف في سياق منظومة إعلامية تفرز عقلية التوجس من الرأي الآخر واتخاذ مواقف مسبقة منه، وغياب القدرة على النقد البناء والتحليل المحايد والتفكير العقلاني، سواء لدى الإعلاميين أو ضحاياهم من الجمهور المستهدف.. نظرا لخطورة هذه الظاهرة وانعكاساتها الأخلاقية والسياسية. ونعتقد أن ما يَحُول بين المرء وعقله في هذا الشأن أربعة ظواهر تصيب منظومتُنا الإعلامية، ولا سبيل لعلاج الإعلام المصري والعربي إلا بإزالتها: · الاعتماد على الشحن الإعلامي وحملات التخوين وبث الكراهية كأسلوب غالب في الإعلام وغياب مساحات للنقاش الحر المحايد والحوار بين الآراء المختلفة في القضايا السياسية، مما يجعل المتلقي يتقبل الأفكار كحقائق غيرِ قابلة للنقاش، ويحتفظ في قرارة نفسه بقناعات غير حقيقية، إما أن تصيبه بالحيرة والانصراف عن الاهتمام بالقضايا الوطنية، وإما أن تحوله إلى بوق متعصب جاهل يردد ما لا يفهم، ويدافع عن الأخطاء ويبررها. إن كثيرا من الإعلاميين في حاجة ماسة إلى التدريب على مناقشة قضايا مخالفة لقناعاتهم وتوجهاتهم، وفتح باب النقاش أمامهم لتقوية فضيلة الحياد والقدرة على تحليل الفكر المخالف، وإبراز مكامن الضعف والخلل فيه- إن وجد- بالحجة العلمية والدفاع العقلي الرزين عن الموقف الصحيح دون تعصب للرأي الشخصي. ولا شك أن كليات الإعلام والمؤسسات الإعلامية في حاجة إلى إدراج الرأي المخالف في المناهج التعليمية والتدريبية، لما في ذلك من مناعة، وقوة في زيادة المعرفة والقدرة على الحوار العقلاني لدى الإعلاميين. لقد عرض القرآن الكريم أقوال إبليس وأتباعه، وجعلها آيات نتلوها ونتعبد بها وتصح بها صلاتنا، دون أن تضيق بها صفحاته، وهو الكتاب التعليمي والإعلامي الأول الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. · الانحدار في الدفاع المتعصب عن الحكام أو القناعات الفكرية والسياسية الشخصية دون تمحيص أو نقد، فنجد الإعلامي يتحرج من أو يتعمد عدم مناقشة قرارات خاطئة قد تكون وبالا على الوطن أو يتعمد لوي عنق الحقيقة والدفاع الأبله عنها!، ويقع في خطيئة تبرير ما لا يبرر، وتعظيم ومدح كل القرارات دون تمحيص للأخطاء ولا كشف عن السقطات. وهذا السلوك ليس من منهج الإسلام ولا الأخلاق؛ ففي الإسلام كلٌ يؤخذ من كلامه ويرد إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم. ينبغي أن نربي في الإعلاميين احترام رأي المخالفين وتقدير جهودهم والبحث عن الجوانب المضيئة في أخلافهم وأفكارهم. كما ينبغي تعليمهم أن النقد له آدابه وشروطه وأخلاقه، وأن حرية إبداء الرأي مكفولة، وأن تجريح الأشخاص مستقبح ومذموم، وأن السقوط في تقديس الأفكار والآراء واعتبارها معصومة من النقد وإعادة النظر خطيئة، بل جريمة. · السقوط في خطيئة تبني الأفكار والأحكام المسبقة من الفكر الآخر لمجرد نسبته للغير أو للمعارضين، فهذا انغلاق مذموم ينعكس سلبا على جهود الآخرين وعلى الوطن، في حين أن البحث عن الصواب حيث يكون، والأخذ بالحكمة ولو من فم المخالف، واعتبار أي جهد بشري مجالا للبحث والاختيار في ضوء مصلحة الوطن التي تحتاج إلى كل اجتهاد إيجابي نافع، هو المسلك الرشيد. والقرآن الكريم بجلاله يقص علينا من قصص الأمم المختلفة ما يعتبر مجالا فسيحا لأخذ العبرة والمثل. والتاريخ الإسلامي كله يدل على أن قادته العظام وعلماءه الأفذاذ لم يكونوا يضيقون بالفكر المخالف، ولا يسارعون إلى اتهام أصحابه بالزندقة والشذوذ، لأن ذلك يدل على الانهزام. يجب أن يعلم الساسة والإعلاميون أنه كلما كانت سياسة الحكم محصنة بالقدرة على الحوار والاستفادة من الرأي الآخر وحرية النقد.. كلما اختفى العنف اللفظي والعناد والصراخ الإعلامي الذي هو بلا شك سلاح العجزة والجاهلين. · ترسيخ فكرة الصراع السياسي في أذهان العامة، فكل مخالف في الرأي خائن ويجوز تجريده من حقوقه!. والواقع أن هذا السلوك المشين لا يستفيد منه إلا الأعداء المتربصون بأمتنا، الذين يخلطون المفاهيم ويساوون بين الضحية والجلاد، وغايتهم الحقيقية التخلص من نعمة الحرية وفضائل الشورى، بالإضافة إلى إبعاد الدين عن الحياة بربطه بالصراعات والخلافات، في حين أن الدين رحمة مهداة للجميع، ينظم الحياة ويضمن التعايش. إن شيوع هذه الظواهر وعدم مقاومتها يؤدي- كما نرى- إلى انتشار السلوكيات المنحرفة وانهيار الأخلاق وتدني الذوق العام لدى الجمهور المتلقي لوسائل الإعلام.. ويلاحظ في هذه الآونة أن هناك من يعبث بالوحدة الوطنية بتغذية سلوك الانقسام ودعم رذيلة الخلاف الجدلي الذي لا فائدة منه، كما يلاحظ انتشار اللغة الهابطة والألفاظ السوقية التي تنتقل إلى الأطفال وتنتشر بسرعة مما يضر بالوطن ومستقبله. أيها الإعلاميون.. خذو العبرة من القرآن الكريم الذي تحدث عن المغضوب عليهم والضالين، وعن شدة عداوة اليهود للذين آمنوا، وأشار إلى أن كثيرا من الأحبار والرهبان يأكلون أموال الناس بالباطل؛ ولكن تلك الأوصاف ارتبطت بالأفعال الصادرة عنهم والمخالفة لتعاليم التوراة والإنجيل نفسها، ولا علاقة لها بروح تعاليم موسى وعيسى عليهما السلام. وقد ذم الله تعالى في القرآن الكريم تصرفات الظالمين والقاتلين والمنافقين والمعتدين والمطففين والخائنين والمستكبرين من المسلمين أيضا، لأنهم خالفوا تعاليمه، تماما كما ذم غيرهم من اليهود والنصارى، دون أن يكون لذلك علاقة باليهودية والنصرانية كشرعتين سماويتين في مسيرة نزول شرائع الإسلام، والجامع في كل الأحوال مخالفة تعاليم الدين والخروج عن مقتضياته. كما أشاد القرآن الكريم بغير المسلمين من أهل الكتاب الذين آمنوا بما أنزل عليهم وما أنزل على محمد عليه الصلاة والسلام وكانوا خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا.. مثلما أشاد بالمسلمين المؤمنين. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.