ليس هناك جدال في أن النظافة ينبغي أن تكون هي أولى الأولويات، وقضية القضايا لأي شعب متحضر أو حكومة عاقلة. ويُعد انتشار القاذورات وتعود الناس على رؤيتها دون رد فعل رافض لها من أسوأ ما ورثته لنا الأنظمة الحكومية المتعاقبة منذ خمسينيات القرن الماضي. لقد اغتظت وارتفع ضغطي وشعرت بالعار عندما قرأت وصف أحد قادة العدو الصهيوني في مذكراته «لنا» بأننا دولة متخلفة وقذرة، عندما تجوَّل هذا الخنزير في شوارع القاهرة ووجد القمامة والحشرات والقاذورات وكأنها جزء من حياتنا.. وتعجب حفيد القردة والخنازير قائلا: كيف انتصر هؤلاء علينا في حرب 1973?.. وتساءل: هل يمكن لمثل هؤلاء أن يضيفوا شيئًا ذا قيمة إلى الحياة أو أن ينتصروا في أية معركة?!. والحقيقة المرة أن كلامه عن مستوى النظافة في بلادنا صحيح، فنحن نشعر بالخجل كلما نمر في شوارع المدن وتقع عيوننا على أكوام القمامة والأتربة والخرابات المنتشرة هنا وهناك, ووصل حال انعدام النظافة في بعض مناطق العاصمة إلى درجة الشعور باللا آدمية. فمن المسئول عن هذه الحالة المخزية.. الشعب أم الحكومات المتعاقبة?. لا شك أن الحكومات هي المذنب الأول.. فهي المسئولة عن وضع الأنظمة واللوائح، وتوفير الأدوات والآليات التي تعين الناس على الحفاظ على النظافة, بل وتلزمهم بها.. وهناك أمثلة عديدة تؤيد ذلك مثل نظافة الفنادق، والمستشفيات والمدارس الخاصة, وأيضًا مترو الأنفاق (قبل الفوضى الراهنة!). فعندما وجد الناس نظامًا للنظافة التزموا به, وإذا لم يجد الناس أنفسهم النظام والأدوات المساعدة على النظافة فسوف يكون الحال كما نرى. وإذا رصدنا أحوال النظافة بالقرى المصرية مقارنة بالمدن.. نفاجأ بأعجب الأمور وهي أن القرى أنظف كثيرا من المدن لأن يد الحكومة لم تصل إليها- إهمالا لها، والحمد لله على هذا الإهمال الحكومي للقرى، فأهالي القرى يتولون أمرها ويهتمون بنظافتها تلقائيا، ولو وضعت الحكومة يدها كما تفعل بالمدن لأصيبت القرى أيضا بالقذارة التي تعاني منها المدن!. وتعتبر العاصمة خير شاهد.. فقبل تدخل الحكومة لجباية الأموال بحجة النظافة (الجنيهات الثمانية على فاتورة الكهرباء) كانت الأمور أفضل؛ شركات نظافة خاصة تمر على الشقق وتحمل القمامة مباشرة دون تخزين بالشوارع مقابل جنيهان أو ثلاثة شهريا. وعندما وضعت الحكومة أنفها بجباية المال إجباريا فضل كثير من الناس (مقابل فلوسهم) وضع القمامة بصناديق الحكومة البالية وغير الصالحة للاستخدام والتي لا تتسع للقمامة الكثيرة، فصارت الشوارع ميادين للقمامة، وانتشرت القذارة والروائح الكريهة في كل مكان، بما فيها الأحياء التي يسمونها راقية. ليت الحكومة الفاشلة ترفع يدها وتترك الأمر للشركات الخاصة التي لا تحتاج إلى تخزين القمامة بالشوارع، مع مراقبتها والإشراف عليها، والتأكد من حسن سير العمل بها. وهذا استجواب (صحفي) لوزراء البيئة والصحة والحكم المحلي والسياحة: ما هي الإجراءات التي اتخذتموها, وما هي المنظومة التي وضعتها الحكومة لمعاونة الأفراد في الحفاظ على النظافة?.. لماذا لا توجد صناديق كافية للقمامة?، ولماذا لا تفرغ الصناديق القليلة الموجودة في أوقات مناسبة بدلا من تركها بالشوارع (وفي عرض الطريق!)؟!.. لماذا لا يوجد نظام ملزم للتخلص من بقايا البناء والهدم بطريقة متحضرة? (لدينا خطة لذلك لمن يريد).. لماذا لا تلزمون ملاك الأراضي الفضاء- التي تحولت إلى خرابات- بتسويرها وتنظيفها وإلا خضعت للمصادرة?.. لماذا لا يوجد نظام راقٍ للإعلان بدلاً من هذه الفوضى التي لا يلتزم فيها أحد بالمظهر العام أو الذوق عند لصق الإعلانات، خصوصا إعلانات الدعاية الانتخابية?.. إلى متى تظل الأمور متروكة للعشوائية بدلا من التخطيط العلمي?!!. كما نتوجه بالسؤال إلى وزير الصحة: كم تخسر مصر من أموال لعلاج الأمراض الناجمة عن انعدام النظافة؟، أليست الوقاية خير من العلاج؟!.. ونسأل وزير السياحة: ألا تشعر بالخجل من السياح الذين تجلبهم وزارتك (إن وُجد!) ويتفرجون ليل نهار على قذارة شوارعنا ومرافقنا؟، ماذا فعلت لكي تشجع السياحة وتنقذ سمعة مصر من همس السياح وتندرهم علينا وعلى قذارة بلدنا؟.. هل يعتبر الوزراء بالوزارات المختلفة أن قضية النظافة ليست من اختصاصهم؟، المفروض أن هناك مسئولية مشتركة لمجلس الوزراء بالكامل، ولا يجوز أن تكون الوزارات جزرا معزولة!. إن إهمال قضية النظافة يؤدي إلى خسائر اقتصادية لا حصر لها، وتكفي الخسائر الصحية، وليس هناك من سبيل لمواجهة أي انتشار مفاجئ للعدوى- بسبب إهمال النظافة- دون وجود نظام متحضر للرعاية الصحية متضمنا الاهتمام والالتزام بالسجلات الطبية والكشف الدوري على كل مواطن.. فهل لدينا نظام آدمي للرعاية الصحية؟!. شيء جميل أن يصدر قانون بمعاقبة من يلقي القمامة من سيارته بالشارع أو الطريق.. ولكن الواجب أن نُوجِد البديل أولا، فلو وَجد الناس صندوقا للقمامة فسوف يستخدمونه، والكارثة أن (كل القرى ومدن المراكز الإدارية) لا توجد بها صناديق ولا نظام لجمع القمامة، والناس لا يلقون القمامة أمام بيوتهم كما يحدث بالمدن لأن أحدا لن يأتي لجمعها، فيضطر من لديه سيارة وفي طريقه مدينة بها صناديق، أن يحمل قمامته إلى المدينة، ولكن ماذا يفعل باقي الناس؟، الواقع المؤلم أن يضطر الناس لإلقائها بليلٍ على الطرق السريعة وفي المصارف والترع، وهذا سلوك سيء ومرفوض ولكن اللوم يكون أولا للحكومة التي تهمل هذه القرى. مطلوب وضع نظام متحضر لجمع القمامة (مصنفة) بجميع المدن والقرى، والحكومات الذكية تستثمر القمامة وتستفيد منها. والقذارة التي نعاني منها لا تقتصر على القمامة، لأن الأتربة وبقايا الإعلانات تشوه الوجه الحضاري لمصر. ولسنا في حاجة لضرب أمثلة لكي تقتنع الحكومة بقذارة المدن التي يحكمونها، لأن القذارة أصبحت عامة.. ابتداء من العاصمة نفسها!، ولكنني أعتقد أن أفضل مثال هو محافظة الشرقية التي لم يخجل محافظها من الحالة التي أوصل المحافظة إليها، حيث تحولت إلى (خرابة) كبيرة ومنشأة قذرة يشهد بها كل زائر للمحافظة. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.