أعلنت الحكومة أنها تنوي تخفيض التمثيل الخارجي لمصر إلي النصف . وهذه خطوة هامة لو جاءت في إطار رؤية شاملة لإصلاح التمثيل في الخارج لأنها إذا طبقت بشكل عشوائي أو انتقائي بدون رؤية فسوف تضاف إلي السلوك العشوائي للحكومة في بقية القطاعات . التمثيل الخارجي لمصر يؤدي إصلاحه إلي الاقتصاد في النفقات خصوصا في العملة الصعبة وإلي ترشيد وظيفة التمثيل إذا اقترن بإصلاح السياسة الخارجية وأدواتها . فقد سبق للرئيس السادات أن قرر تخفيض عدد البعثات المصرية في الخارج وشكل لجنة من الوزارات التى لها مكاتب للتمثيل . واجتمعت هذهاللجنةالوزاريةالسداسية في عشرات الاجتماعات وانقسمت فيما بينها وكانت هذه اللجنة تحاول أن تحافظ علي مزايا ممثليها وليس أمامها سوي وزارة الخارجية وبعثاتها وتبين ان وزارة الخارجية وبعثاتها تمثل بإنفاقها جزءا صغيرا من إجمالي الإنفاق علي هذا التمثيل وبعد ستة أشهر من عمل هذه اللجنة لم تجرؤ علي تخفيض عدد هذه البعثات وإنما اتخذت قرارين يعكسان فشلها . القرار الأول هو إغلاق بعثة واحدة تضم رئيس البعثة واثنين من صغار الدبلوماسيين والإداريين وكان مبنى هذه البعثة هدية من الدولة المضيفة وهي جويانا في منطقة البحر الكاريبي في أمريكا الجنوبية . أما القرار الثانى الذي كنت أنا أحد ضحاياه فهو تخفيض عدد سنوات الخدمة لأعضاء وزارة الخارجية وحدها لتكون ثلاثة بدلا من أربعة سنوات وطبق هذا القرار مرة واحدة ثم تم إلغاؤه بعدها مباشرة وهكذا فشلت المحاولة الأولي . ولا أظن أن الحكومة الحالية بسلوكها أقنعتني بأنها تعمل وفق رؤية في أي مجال . ولذلك أشك شكا عميقا في أن هذا الإعلان سيظل إعلانا لإيهام الناس بأن التقشف يشمل الحكومة أيضأ . الحقيقة الثابتة هي أن البعثات أدوات لتنفيذ سياسات كما أن هذه البعثات عبء علي بعض الدول ولم تجد هذه الدول غضاضة في إغلاق بعثاتها في عدد كبير من الدول فقد مضى الزمن الذي كان فيه عدد البعثات انعكاسا لمكانة الدولة ، وكان التمثيل الخارجي دليل ثروة الدولة وقدرتها وكان التمثيل أيضا رمزا لتأكيد حضورها الجدي في المجال الدولي بعد استقلال الدول النامية وأخيرا مضى الزمن الذي كان فيه التمثيل يرتبط بالمعاملة بالمثل . وقد أصبح معلوما أن مكانة الدولة تستند إلي أوراق القوة وليس من بينها التمثيل الخارجي كما صار معلوما خاصة في عصر العولمة أن البعثة فقدت الكثير من أهميتها بل إن السفارة نفسها لم تعد أساسية ما دامت الاتصالات بين الدول تتم علي كل المستويات وخصوصا علي مستوي القمة دون الحاجة إلي البعثات . وفي ظروف مصر الحالية التى طرأت عليها فجأة بدون مبرر منذ 2013 وتصويرها أمام العالم علي أنها علي وشك الانهيار والإفلاس وأنها بحاجة إلي المساعدة وأهل البر فإنني أعتقد أن أكثر من 160 بعثة في معظمها مكاتب عسكرية ومخابراتية وأمنية أصبحت تراقب المواطنين أكثر مما تراقب مصالح مصر الغير واضحة وأًصبح دورها هو تبربر تصرفات النظام وهي دائما في موقف دفاعي والعالم كله يعرف عنا أكثر مما نعرف عن أنفسنا . ولذلك إذا كانت الحكومة جادة فعلا فعليها أن تبدأ بإلغاء كافة بعثات مصر الدبلوماسية ومكاتبها الفنية لمدة خمس سنوات والإبقاء علي بعض البعثات القنصلية لرعاية المصريين في الدول المضيفة وليس لمراقبتهم هذا الإجراء سيوفر لمصر سنويا إذا أخذنا في الاعتبار العمولات التى تدخل في جيوب الأشخاص 25 مليار دولار أي قدر دخل قناة السويس الآن عشر مرات كما أن المصريين بالخارج سوف يشعرون بالآمان وقد يفكرون إذا توفرت المصداقية في إقامة مشروعات بأسمائهم في مصر لأن المصريين في الخارج كانوا تاريخيا لا يثقون في حكومات مصر وأذكر أنه عندما طلبت الحكومة عام 1985 أن تسعي البعثات المصرية لدى الجاليات المصرية في الخارج للتبرع علي أرقام في بنوك مصرية مخصصة لتلقي التبرعات والهدف هو سداد ديون مصر قالت الجاليات المصرية صراحة أنهم مستعدون لسداد الديون للبنوك الدائنة الأجنبية مباشرة ولكنهم ليسوا مستعدين أن تلتهم الحكومة المصرية مدخراتهم تحت ستار الوطنية . موقف المصريين الآن يمكن أن يرتد إلي هذه التجربة فعدم المصداقية ليس تهمة وليست قرارا . فالمصداقية سلوك متراكم من جانب الحكومة ومتابعة واعية من جانب الناس وإذا فقدت الحكومة مصداقيتها فلن تعود . والإنفاق الحكومى لايقتصر فقط علي التمثيل في الخارج وإنما يشمل كافة نفقات السلطة :الرئاسة والحكومة والبرلمان والجهاز الإداري ولذلك إذا كانت الحكومة جادة عليها أن تجمد مجلس النواب كما جمدت الدستور وأن تتجنب المظاهر التى تنفق فيها الملايين لبيع الوهم وكذلك سفريات الوفود وغيرها . وإذا أرادت الحكومة فعلا خدمة مصر فليكن لدينا الحد الأدنى من الوزراء وليتم إلغاء الكثير من الوزارات والأكثر من الوزراء فيمكن أن تدار مصر بخمسة وزارات فقط علي أن يتم اختيارهم لتنفيذ رؤية حقيقية وليس تحت ستار المصلحة العامة وهذه المسألة يمكن دراستها إذا استقامت النوايا وخلصت الضمائر ولكن من الخطر أن يمتد الاضطراب والعشوائية والإيهام وتغطية الفشل في إدارة البلاد بهذه الدعوات للتقشف الحكومى . ومن الناحية النفسية ألا تشعر الحكومة بكل أقسامها بالخجل من أن تتسول وتبذر في نفس الوقت من دول ربطت الأحزمة علي بطون أبنائها ؟!