تناولت فى مقال سابق بعض المفاهيم الأساسية الخاصة بسعر الصرف، تمهيدًا لعرض نظمه. وهو ينقسم إلى قسمين: نظام الصرف الثابت ( fixed or pegged exchange rates ) ونظام الصرف العائم (floating exchange rates). 1- نظام الصرف الثابت وفى هذا النظام، يحدد البنك المركزى المصرى سعر (ثابت) لعملته بناء على المتغيرات والعوامل التى سبق شرحها، ومن ثم يحافظ على هذا السعر فى السوق، بالضخ المستمر للدولار أمام الجنيه المصرى. ولتقريب الصورة، نفترض أن سعر الدولار مقابل الجنيه كان 5 جنيهات مثلاً فى حين أن قيمته الحقيقية كانت 7 جنيهات، للحفاظ على سعر الخمس جنيهات وعدم خلق سوق موازية (سوق سوداء للعملة) يقوم البنك المركزى بضخ دولارات فى أماكن تبادل العملات والصرافة، فتتغير نقطة الاتزان الحقيقية من 7 إلى 5 جنيهات، وذلك عن طريق توفير عرض (غير حقيقي) يهبط بالدولار إلى السعر المحدد. ومن مميزات هذا النظام، استقرار سعر الصرف أمام المستثمرين، حيث تقوم الشركات الاستثمارية ورجال الأعمال والقطاع الأجنبى بحساب التكاليف والأرباح على مدى طويل، مما يساهم فى زيادة الاستثمارات الأجنبية المطمئنة أن سعر العملة بعيد كل البعد عن تقلبات سوق العرض والطلب، مما يخلق مناخًا استثماريًا جذابًا طويل الأمد. 2- نظام الصرف العائم و فى هذا النظام يقوم البنك المركزى برفع يده عن العملة الوطنية وتركها فى مهب الريح لتقلبات العرض والطلب، أو تخفيض قيمتها وصولاً إلى التعويم الكامل، لتقادى ذعر السوق وحفظًا لماء الوجه. ولا تلجأ الدول لهذا النظام إلا إذا توافر لديها نظام اقتصادى قوى أو أراد النظام السياسى خلق بيئة مشجعة للتصنيع المحلى والتصدير. وبالشرح المبسط، نفترض أن قيمة علبة الشامبو المحلى تعادل 10 جنيهات، ومثيلها فى أمريكا بدولار واحد فقط. فى ظروف الدولار يعادل 7 جنيهات، وبعد إضافة الضرائب والرسوم والشحن وأرباح المستورد، أصبح سعرها فى السوق المحلى 15 جنيهًا. عندها ربما يقع المستهلك فى حيرة عند الشراء ويختار أن يبذل قليلاً من نقوده ويشترى الشامبو المستورد ذو الجودة الأعلى (المستهلك له اختيار معيار الجودة بالسعر الذى يناسبه). الآن لنفترض أن البنك المركزى رفع يده عن دعم العملة الوطنية، وأصبح الدولار يعادل ما قيمته 14 جنيهًا، عندها ستزيد قيمة الشامبو من 15 جنيهًا إلى 40 جنيهًا أو أكثر (ولن يتمتع المستهلك برفاهية الاختيار). والسبب فى الرفع المضاعف، يرجع أولاً إلى قلة الكميات المستوردة نظرًا لارتفاع كميات الجنيه المتبادلة بالدولار مع ثبات أصل رأس المال من جهة (فالألف جنيه مثلاً التى كانت تشترى 80 علبة شامبو، لن تكفى لشراء أكثر من 40 علبة) وإلى قلة الدولارات فى السوق نظرًا لتوقف المركزى عن ضخ الدولارات فى الأسواق النقدية. وتوابع هذه العملية إما نقص فى الطلب على المنتج، فالشامبو الذى كان ثمنه ب 15 جنيهًا، كان يقع فى المقدرة الشرائية للطبقات الفقيرة مثلاً، الآن خرج هذا الصنف من هذه الطبقة وانحصر فقط ما بين الطبقة المتوسطة والطبقة الغنية، وبالتالى يقل الطلب على المنتج مما يخلق بؤرة اتزانية أخرى المفترض أن تؤدى إلى تخفيض ثمنها نتيجة تكدسها فى المخازن. ولكن ما يحدث أن السعر لن يقل بسبب قلة ربح التاجر ومحاولته لتعويض الخسارة من ربحه (لارتفاع تكاليف المعيشة لنفس السبب) وبسبب افتقار النظام الاقتصادى للشفافية ومنع الاحتكار من جهة أخرى. أو سيظل الطلب على ثباته رغم ارتفاع سعره، إذا كان منتج أساسى وحيوى كالغذاء والدواء، مما سيؤدى إلى ارتفاعات أخرى فى الأسعار نتيجة زيادة الطلب وقلة المعروض منه. ولتدرك الأبعاد الحقيقية للكارثة، تخيل أن الشامبو ليس له بديل فى السوق المصري، ولا توجد منتجات محلية الصنع تعويضية تحل مكانه؟. فالدول الرشيدة، لا تلجأ لتعويم عملتها، إلا لو كان لديها منتج تريد حمايته، أو صناعة ناشئة وليدة ترى لها مستقبل، سواء فى المستقبل القريب أو البعيد، أو تريد تشجيع التصدير وتقليل الاستيراد لمعالجة خلل الميزان التجارى. والمتتبع للصناعات المصرية، يعلم أن المدخلات ومواد الإنتاج الأولية جميعها دون استثناء يتم استيرادها من الخارج، كما أن السياسات الاقتصادية الأخيرة التى اتبعها المسئولون فى تدمير العديد من الصناعات كصناعة الغزل والنسيج والسكر والزراعات الحيوية كالقطن طويل التيلة و القمح والأرز، وإغلاق العديد من المصانع بسبب زيادة تكلفة الإنتاج وأعباء الضرائب الجديدة جنبًا إلى جنب رفع الدعم عن المحروقات والكهرباء وغيرها، أودى بالمنتج المصرى إلى خبر كان، ناهيك عن انعدام الرقابة على الجودة والمعايير الاستهلاكية الآمنة. وعليه، سيتسبب التعويم فى ندرة المنتجات وارتفاع أسعارها بصورة مبالغة مع عدم وجود بدائل أو صناعات محلية تقوم بعملية التعويض وسد الاحتياجات أو حتى حماية لصناعات ناشئة وليدة، وجميعنا نتذكر محاولات تصنيع السيارة نانو إيجيب وتاب إينار وعلاج فيروس سى (الحقيقي) المصري، وكيف اختفوا جميعًا فى ظروف غامضة. الخلاصة، أن يتم تعويم الجنيه المصرى فى ظل الظروف الحالية التى يعانيها الاقتصاد، واستمرار الخطاب السياسى الذى يطالب المواطنين بغض النظر عن الحالة الاقتصادية الراهنة لمحاربة الإرهاب، وبالتالى طرد الاستثمارات بسبب هروب رأس المال الجبان، ومع انحدار السياحة لأدنى مستوى منذ عقود، وزيادة الضرائب وقلة الإنفاق الحكومى وزيادة معدلات البطالة ورفع الدعم، كل ذلك تحت مظلة من عدم الشفافية وعدم وجود نية صادقة لمحاربة الفساد، وتوجيه الأبواق الإعلامية التحريضية ضد الدول المجاورة. تعنى أن، تعويم العملة سينتهى بنا إلى "انتحار اقتصادى" بدرجة امتياز!.