_ ما كدنا نستفيق من كارثة تضرب كبد البلاد،وتوغل صدر أبنائها،وتدمي قلوبهم، حتي تلاحقنا أختُها. لكن الكارثة هذه المرة قد أخذت منا اليمين، ثم ضربت منا الوتين، فانحني الظهر قهراً، ووهن العظم حسرةً واشتعل الرأس شيباً،وجثت الأمهات علي ركابها، كلُ أمٍ تُدعي لتتسلم جثة فلذة كبدها، الذي مات غرقاً في هجرة رغب من خلالها أن يجد في أرض الله وبلاده الواسعة مراغماً كثيراً وسعة، عسي أن يعود إلي حضن أمه بعد أن قضي في الغربة سنين عدداً وقد حقق بعضاً من آماله وآمال أهل بيته(إنها مصيبة غرق مركب رشيد) التي هزت ربوع مصر من أقصاها إلي أقصاها،ومن أدناها إلي أدناها،وأدمت قلوب كل من كان له قلب، أو ألقي السمع وهو شهيد. _عجزت الألباب عن تفسير ماحدث للمركب المنكوب قبالة ساحل رشيد،مابين متهم للضحايا و أهليهم بأنهم السبب،وبين من يتهم الدولة بإغراقها!فلماذا لم تقم الدولة بمسؤلياتها الدستورية والقانونية علي النحو السديد، فتعلن الحقائق كاملة للناس في شتي بقاع الأرض،حتي وإن كان من خلال التنبيه علي أن المصيبة رهن التحقيق الجاد، وفور انتهائه سيتم كشف الحقائق للجميع فيريحوا ويستريحوا؟ وإزاء ما رآه الجميع بأم عينيه من تقاعس مريب للدولة بكل مؤسساتها عن إسعاف ما يمكن إسعافه في هذا الحادث المأساوي، فأنا أهدي الدولة رئيساً ومسؤلين هذه الكلمات الناصحة ،في تلك الأيام النحسات عسي أن يكون بينهم رجل رشيد،يسمع ويقرأ دون ضجر أو تخوين أو تأفف ،فتقف به الكلمات حيث ما ننشده جميعاً. _جاء في الخطب والمواعظ لابن عبيد البغدادي (ت224ه) عن فضالة بن عبيد أن دادو عليه السلام سأل ربه فقال يارب أخبرني بأحب خلقك لك، فقال ذو سلطان يرحم الناس ويحكم للناس كما يحكم لنفسه.فلماذا لم ترحم هؤلاء الضحايا يا من توليت زمام أمرهم ؟ تسألهم لماذا سافروا، وتعتب عليهم هجرتهم بحثاً عن رزق في أرض الله الواسعة بعد أن ضاقت بهم السبل،وحالت بينهم وبين السعادة أمواج الفساد التي تعصف بالبلاد فتهصر بالشرفاء من أبنائها؟ فأنا كشاب أجيبك بأنك لو مهدت لهم الطريق في مصر، وأريتهم من نفسك عدلاً ورأفة ورحمة،وأبوةً ما تركوا مصر حتي وإن تخطفتهم الطير في البيداء؟ لذا فاعلم أن أقل ما يمكن أن تؤديه شكراً لله علي ما جعلك فيه من أمر مصر كما يقول الوزير المغربي (ت 418ه) هو العدل فيما ولاك الله إياه، والإحسان إلي من استرعاك، والسهر لنومهم، والتعب لحراستهم، وأن لا تظن أن غرض الحاكم هو تحصيل الراحة والدعة، بل أنت أحق الناس بالتعب، وأولاهم بالنصب. _ إن كنت تسألنا لماذا نفكر في الهجرة ونترك مصر أمنا التي رُبينا فوق ترابها، وسار نيلها رياً بين جنبات ضلوعنا أقول لك: لو اجتهدت أن تجعل طاعة العامة والخاصة لك طاعة محبة لا طاعة رهبة لكنا حراسك، لكنك اجتهدت بإيعاز من بطانة السوء لديك أن تكون طاعتنا طاعة رهبة فاحتاجت إلي الإحتراز من شعبك ورعيتك، فألقيت فينا خطاب الوعيد والتهديد بأنك قادر علي أن تنشر جيش مصر الحبيبة في ربوعها في ست ساعات لا غير إذا فكر أحد في النزول إلي شوارع مصر معترضين ، علي أسلوب إدارة البلاد في تلك المرحلة الفاصلة من عمرها،نصحاء لك في كل أزمة!!وشتان ياحاكم مصر بين أن تجعل الناس حراساً لك، وبين أن تحتاج إلي الاحتراس منهم. وهنا لا تفهم أننا نعني بزوال الرهبة أن تخلو قلوب الشعب منها بالكلية ، لا ،بل نريد أن تكون في حال رهبتنا لك واثقين في عدلك، آمنين من تعسفك وظلمك، فتكون الرهبة حينئذ كمخاوف الولد لوالده برفق وأدب وهو يعلم أنه لا يريد إلا كل الخير له. _يا حاكم مصر تركت الحادث الذي أدمي قلوبنا، وتمزقت لأجله مشاعرنا، وحدثتنا أنك تريد منا فكة حساباتنا البنكية !! لقد فاتك ياقائد مصر أن الكثير منا لا يملك قوت يومه إلا بشق الأنفس, ثم قد غاب عنك أن من حسن سياستك وإدارتك أن تكون موارد دخل البلاد مناسبة لجلالة قدرك، وعلو منزلتك، لا يهتك للدين ولا للمروءة فيها ستراً، ولا يُؤتَي بها علي أحد رعايا شعبك انتقاصاً وظلماً. _ياحاكم مصر إنزع الظلم من أصوله، وازرع محبتك في قلوب رعيتك،واحفظ حياتهم، وأمن طريقهم ،واستثمر لأجلهم، ويسر أمور حياتهم،لتتوفر لهم معيشة يرضونها،وأنزل العقوبة الناهكة علي الداعين للمجون والدعارة والفجور، أنزلها علي اللصوص والمفسدين، والمقصرين، ثم اعطف علي الضعفاء وتقرب إليهم،فإن كثيراً من الفتن تهيج وتشتعل جذوتها بشكاية الضعفاء، وجشع الأغنياء وحقدهم، وليكن دليلك في ذلك: إن عثرت بغلة علي شاطئ رشيد لخفت أن يسألك الله عنها: لما لم تمهد لها الطريق ياحاكم مصر،وإن لم تفعل فأنا أسألك: أخرقت السفينة ليغرق أهلُها؟!! _ياحاكم مصر لا يحسن بك أن تأمر بالمعروف إلا إذا بدأت بفعله، ولا تنهي عن منكر إلا إذا بدأت بتركه، ولا تلوم أحداً فيما لم تلم عليه نفسك، ولا تستقبح من شعبك مالا تستقبحه من نفسك، لأن الناس علي أخلاق ملوكهم ورؤسائهم مستنون. فكن كما قال أحد الحكماء :أصلح نفسك لنفسك يكن الناس تبع لك، وإن أفضل الملوك هو من أبقي بالعدل ذكره، واستعمله الناس بعده. _ ياحاكم مصر أقول لك ما قاله الفاروق بن الخطاب في رسالته لأبي موسي الأشعري: لا تأنف يوماً أن ترجع إلي الحق، فإن الرجوع إلي الحق خير من التمادي في الباطل، ولا تأخذك العزة بالإثم، فلئن كان لسان الحاكم طويل، فلسان الحق أطول، وإن كانت طاعتك واجبة فإن طاعة الحق أوجب، وإن صارع الحاكم الحق يوماً صرعه الحق، إسمع إلي قول الشاعر:متى مَا تقد بِالْبَاطِلِ الْحق يأبه ... وَإِن قُدَت بِالْحَقِّ الرواسِي تنقد. _ ياحاكم مصر: أرسل الإسكندر إلي معلمه يسترشده كيف يدير أمر ملكه ؟ فأرسل إليه رسالة كتب فيها: لا تتناول من لذيذ العيش ما لايمكن لرعيتك أن تناوله ،فإنه نوع من الإستبداد، وليس مع الاستبداد محبة _ ياحاكم مصر أقول لك ما قاله الإمام الماوردي في تسهيل النظر: السعيد من وقي الدين بملكه ولم يوق الملك بدينه ،وأحي السنة بعدله،ولم يمتها بجوره ، وحرس الرعية بتدبيره ولم يمتها بتدميره، لتكون بذلك موطداً لقواعد ملكك، ومسيداً لأساس دولتك. _ياحاكم مصر:جاء في الخبر علي نحو ما أورده الإمام أبو حامد الغزالي أن داود عليه السلام كان يخرج ليلاً متنكراً بحيث لا يعرفه أحد، وكان يسأل كل من يلقاه عن حال داود سراً، فجاءه جبريل في صورة رجل فقال له داود: ما تقول في داود؟ فقال: نعم العبد، إلا أنه يأكل من بيت المال ولا يأكل من كدّه وتعب يديه. فعاد داود إلى محرابه باكياً حزيناً وقال: إلهي علمني صنعة آكل بها من كدي وتعب يدي. فعلمه الله تعالى صنعة الزرد، قال تعالي(وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم).وكان عمر بن الخطاب يخرج كل ليلة يطوف مع العسس حتى يرى خللاً يتداركه وكان يقول: لوتركت عنزاً جرباء على جانب ساقية لم تدهن لخشيت أن أسئل عنها في القيامة. فانظر أيها الحاكم إلى عمر مع احتياطه وعدله وما وصل أحد إلى تقواه وصلاته كيف يتفكر ويتخوف من أهوال يوم القيامة، وكيف يرتعد خوفاً من إهماله الغير متعمد إذا كانت هناك عنزة جرباء،لم يقم عمر بمعالجتها ومداوتها وأنت قد جلست لاهياً عن أحوال رعيتك غافلاً عن أهل ولايتك. وأخيراً يا حاكم مصر: مَا أَحْبَبْت أَن تسمعه أذناك من مقالتي فأته وَمَا كرهت أَن تسمعه أذناك فاجتنبه، فما أردت إلا نصحكم ولن ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم، هو ربكم وإليه ترجعون .