مازال حبل الموت ممدودا على ظهر مركب رشيد الغارق في مياه البحر المتوسط أمام السواحل المصرية، فأعداد الذين كانوا مشحونين عليه ومحشورين فيه ولقوا حتفهم تتزايد مع انتشال المزيد من الجثث التي كانت مثخنة بقسوة الحياة عندما كانت تتنفس، واليوم هي مثخنة بألم الموت المجاني رغم أنها فقدت التنفس للأبد. عند كتابة هذه السطور كان عدد ضحايا المركب الذين تم انتشال جثثهم أكثر من 166 شخصا، ومازال هناك كثيرون في عداد المفقودين، وهو ما يعني أنهم رحلوا إلى العالم الآخر، وقد تكون أجساد بعضهم في قاع البحر، أو تلتهمها الأسماك، أو طافية ويدفعها الموج بعيدا عن الشاطئ. كارثة جديدة من الكوارث المتتالية للهجرات غير الشرعية عبر المتوسط الذي شهد خلال الشهور التسعة الأولى من هذا العام وفاة أكثر من 3200 غرقا وهذا الرقم حسب المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة هو الأكبر منذ 2014، وحسب المفوضية أيضا فإن هذا العام سيكون الأكثر دموية بالنسبة للمهاجرين الذين يفقدون حياتهم. مراكز التهريب الأساسية هي الشواطئ الليبية الطويلة جدا والشواطئ المصرية، ونحو نسبة 10% من الهجرة غير الشرعية لأوروبا تنطلق من مصر، وإذا كانت الفوضى في ليبيا وعدم وجود دولة بالمعنى الحقيقي وعدم وجود جهات موحدة مسؤولة تدير شؤون البلاد وتسيطر عليها ويمكنها أن تتحرك لمحاولة ضبط الشواطئ وفرض الرقابة عليها لتقليل هذا الاندفاع البشري القادم لركوب البحر رغم مخاطره المؤكدة فإنه لا مبرر لمصر أن تظل تنطلق مراكب الموت من شواطئها ليكون مصيرها مأساويا كما حصل لمركب رشيد، أين الأجهزة والرقابة والسيطرة والدوريات على الشواطئ؟. لست في وارد لوم الفارين من بلادهم - مصريين وعرب وأفارقة - بحثا عن أمل في حياة أفضل في بلدان أوروبا، فهم ضحايا مرتين، في الأولى لأن اليأس من أوضاعهم في أوطانهم هو من يدفعهم للفرار ولو إلى الموت، وفي الثانية لأنهم يراهنون على حياتهم في رحلة بحرية لا تتوفر لها الحدود الدنيا من عوامل الأمان على النفس، فالمراكب التي تحملهم قديمة ومتهالكة ويتم حشر المئات عليها بأزيد من قدرتها وكان ذلك هو السبب الأساسي في غرق مركب رشيد حيث تم تحميلها بأكثر من 450 شخصا وهي لا تتحمل إلا 200 فقط أو أقل من ذلك، ولذلك غرقت المركب فور شحن هذا العدد الكبير عليها وقبل أن تتحرك، وإذا كانت السلطات والأجهزة المسؤولة تُلام على غياب رقابتها على شواطئها وعدم مواكبتها للكارثة بعد حدوثها فإن مافيات وعصابات التهريب والاتجار بالبشر تتحمل لوما مضاعفا فهم لا يعبؤون بالإنسان ولا بحياته ولا يعنيهم سوى الأموال التي يجنونها من وراء الذين يتركونهم لأقدارهم مستغلين بؤوس أوضاعهم في بلادهم ورغبتهم في بناء حياة جديدة في أماكن أخرى أفضل. من قراءة بعض ما قاله الناجون أنهم كانوا يعلمون أن حياتهم مهددة في رحلة عبور البحر إلى الضفة الأخرى في إيطاليا، لكنهم كانوا يجازفون، كانوا يتشبثون بأمل السلامة والنجاة ويتحسبون قليلا للموت، ومنهم من كان صريحا إلى حد الذبح بسكين الكلمات عندما يقول إن حياتهم كانت موتا، ماذا سنخسر إن كانت نهايتنا الموت؟، ومع ذلك من داخلهم كانوا يتأملون خيرا في الوصول إلى بلدان أجنبية لسان أهلها ليس كلسانهم، وثقافة وجنسية وعرقية أهلها ليست مثلهم ومع ذلك يلجاون إليهم ويلوذون بهم ويطلبون معونتهم، ومن يصل إلى هذه الحالة يكون قد وصل إلى نهاية طريق الإحباط واليأس في وطنه. السؤال القبيح هو: كيف يغامرون، ويعرضون أنفسهم للموت؟، من يتفوهون بذلك هم أقبح من السؤال، ويندرجون في خانة الإجرام مع مافيا التهريب والاتجار بالبشر. لكن السؤال هو: لماذا يغامرون، ومن يدفعهم للتضحية بحياتهم أطفالا وشبابا ورجالا ونساء وعائلات؟، المؤكد أن لا أحد يريد الموت، ولا التفكير فيه، ولا تخيله، ولا استحضاره، حب الحياة طبيعة بشرية، والكل يفر من الموت ومن سيرته، رغم أنه واقع بالجميع لا محالة، لكن من يغامر ويترك نفسه في أحضان الموت فالمؤكد أن حياته قد تساوت مع الموت ولم يعد هناك فارق بينهما، فيلجأ للمغامرة المتروكة للقدر والنصيب والعمر. هؤلاء الذين يهربون من موت على البر إلى موت في البحر قد بلغ بهم السيل الزبى وارتفع بهم الغضب من فقدان الحياة الكريمة مبلغا لم يعد يُحتمل، من يطالع ما يقوله هؤلاء عن أسباب اندفاعهم لركوب الموج والخطر سيجد أنهم قنابل بشرية جاهزة للانفجار في وجه المجتمعات التي تعيش على براميل من بارود الفقر والبؤوس والظلم والتهميش والإذلال، وفي وجه أنظمة حكم لم تنجز شيئا لشعوبها التي تزداد فقرا من نظام لآخر وتتسع الفجوة بين شرائح محدودة تمتلك كل شيء وشرائح كبيرة لا تمتلك شيئا، مجتمع السادة القلائل والعبيد الكثرة الغالبة، لا وظائف ولا أعمال ولا فرص للدخل والكسب والعيش الكريم إنما أبواب مغلقة وحوائط مسدودة وأسوار مرتفعة وآمال محطمة وقصور من رمال ووعود خادعة وشعارات كاذبة وتصريحات ملفقة وخطابات مخدرة وكلام أجوف إنشائي بلا روح ولا ضمير. من هو الذي يشعر بالآخر اليوم؟، من الذي يتعاطف مع الآخر؟، من الذي يستقل سيارته الخاصة ويشعر بآلام من يمشون على أقدامهم؟، من يتناول عشاء فاخرا ويفكر في الجوعى؟، من يرتدى ثوبا مطرزا ويتذكر العرايا؟، من يسكن قصرا ويتألم على من يقطن عشة؟، نحن بلدان وشعوب مصنوعون من الصخر الأصم ومن الحجر البازلت ومن الحديد الفولاذ، بلا مشاعر ولا قلوب ولا رحمة ولا عاطفة ولا ضمير ولا إنسانية. نبحث في البلدان الأخرى الأجنبية عن مأوى ومأمن وكسرة خبز وشربة ماء وغرفة للإيواء، وتلك أقل حقوق أي إنسان موجود في أي بلد، والنظام الذي يفشل في توفير تلك الاحتياجات البسيطة لرعاياه لماذا يظل متشبثا بالحكم، قابضا عليه بالحديد والنار، لماذا لا يكون هناك مبدأ التداول السلمي للسلطة ليأتي من قد يكون أفضل ويمتلك رؤية وخطة وبرنامجا؟. الحكم وسيلة لتحقيق الرفاهية للشعوب، وليس غاية يتم الاستمساك بها حتى لو سقطت الشعوب في بئر عميقة من اليأس والبؤس. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.