لا تتعجب فإنها حكمة الله.. ميدان التحرير، الذى وهب لمصر الحياة والحرية والكرامة بثورة خالدة مجيدة تحول على يد متظاهرى الدفعة الثانية إلى مدفن جماعى، فقد قاموا بحفر خمس قبور فى صينية الميدان العظيم، وهددوا بالانتحار الجماعى تعبيرًا عن استيائهم من عدم تنفيذ مطالب الثورة.. على حد قولهم. وفى سياق متصل أعلن 50 شابًا من المعتصمين فى الميدان بدء الإضراب عن الطعام من أجل الضغط على المجلس العسكرى لتسليم السلطة فوراً.. مؤكدين أنه لا تراجع عن موقفهم إلا إذا تم تحقيق مطلبهم. هذه الحالة من السأم واليأس والرغبة فى الانتحار يبدو أنها سيطرت على متظاهرى الدفعة الثانية فى ميدان التحرير ليس فقط بسبب فشل الاعتصام المدنى أو الإضراب العام.. سمه ما شئت، وإنما أيضا بسبب وفاة فتاة بإحدى خيم الميدان فى ظروف غامضة، واختلفت الروايات بشأن الفتاة وموتها.. بعض الصحف قالت إنها أصيبت بهبوط حاد فى الدورة الدموية.. وأنها لم تكن تحمل أى مستند لإثبات الشخصية.. والبعض الآخر قال إنها بائعة متجولة اسمها سلسبيل، قد انتحرت بسبب عجزها عن مواجهة مرض السرطان، وذلك بتناول كمية كبيرة من العقاقير. وفى الوقت ذاته الذى كان يتم فيه حفر القبور الجماعية حاول أحد الشباب التحرش بطبيبة تعمل بالمستشفى الميدانى، مما دفع أصدقاء الطبيبة من المعتصمين لضربه علقة ساخنة.. لكنه استطاع أن يفلت من الموت فهرب ثم عاد ومعه مجموعة من البلطجية ووقعت مشاجرة حامية الوطيس بين الطرفين. سألتنى مذيعة القناة الفضائية: ماذا تتوقع بعد فشل الاعتصام أو الإضراب؟!.. قلت: انتظروا كارثة جديدة وضربة جديدة مدوية تشد المجتمع وتغطى على إحباط فشل الاعتصام الذى كشف للمرة الألف أن القوى الداعية إليه لا تتمتع بأى ثقل فى الشارع وإن كانت تتمتع فقط بالصوت العالى. سوف تكون هناك قفزة للأمام.. وهذا ما يحدث الآن فى شكل إضراب عن الطعام.. فإذا كانت الجماهير غير حاضرة ولا مؤيدة للإضراب أو الاعتصام.. وإذا كان أى تحرك من جانب الداعين للاعتصام لا يحظى بأى مردود شعبى وهو ما سيكشف أوزانهم الحقيقية وربما يمنع عنهم سيل التمويل الأجنبى السخى.. فإن الرد التلقائى سيكون ضربة نوعية أخرى تعتمد على فعل الأقلية ولا تحتاج رأيا عاماً ومؤيدين كثيرين.. ومن ثم كان التوجه إلى الإضراب عن الطعام أو الانتحار. وبدلا من الاعتراف بالفشل وخطأ التوجه وهشاشة الوزن انطلقت الفصائل الداعية للاعتصام إلى التنصل منه.. بعضهم قال لم ندع إلى عصيان مدنى وإنما دعونا فقط إلى إضراب عام والصحافة هى التى اختلقت حكاية الاعتصام المدنى.. وبعضهم قال إن الأزهر أدخل الدين فى السياسة عندما أصدر فتوى بتحريم الاعتصام وتعمد التأثير على المواطنين. الطريف أن حركة شباب 6 إبريل كانت أكثر الحركات تضليلا فى الاعتراف بالفشل.. فقد أكدت أن عدم استجابة الشعب لدعاوى الإضراب والعصيان المدنى يعد فشلا كبيرا وانتقاصا من رصيد القوى الثورية فى الشارع.. بصريح العبارة تقول 6أبريل أن فشل العصيان المدنى كان فشلا كبيرا وانتقاصا من كل القوى الثورية.. وبذلك فالفشل ليس فشلها ولا تعبيرا عن هشاشة وزنها، وإنما هو انتقاص من رصيد القوى الثورية فى الشارع.. وهذا أمر غير حقيقى لأن القوى الثورية الحقيقية رفضت العصيان المدنى من البداية ووقفت إلى جانب مصلحة الشعب الحقيقية تدعو إلى الإنتاج والتماسك ودعم الدولة فى مواجهة مخططات ودعوات الإفساد والتفكيك. وأكبر دليل على أن الفشل كان من نصيب القوى الداعية للاعتصام وليس كل القوى الثورية أن مصطفى يونس المتحدث الرسمى باسم الاتحاد العام للثورة، الذى يمثل 18 ائتلافًا وحركة ثورية أكد أن الشعب قال كلمته برفض العصيان المدنى ورفض أى فصيل أو تيار يحاول هدم مؤسسات الدولة أو مخالفة الشريعة الإسلامية.. وأضاف أن الداعين للعصيان المدنى خسروا رصيدهم فى الشارع المصرى وأضاعوا على القوى الثورية والسياسية الفرحة والاحتفال بذكرى تنحى مبارك. وعلى الجانب الآخر حاولت 6 إبريل أن تتجمل فى هذا الظرف العصيب وأن تحفظ ماء وجهها بإعلان مطالبتها بالتوقف عن التمويل الأجنبى لمنظمات المجتمع المدنى.. وأكد المهندس أحمد ماهر منسق الحركة، أنه طالما أثبتت لجنة التحقيقات أن التمويل الأجنبى للمنظمات تدخل فى السياسة المصرية فإنه يجب وقف جميع أنواعه وأشكاله.. سواء كان موجها إلى الحكومة أو إلى المجتمع المدنى.. وأى تمويل قد يؤثر على سيادة مصر سواء أكان تمويلا أمريكيا أو سعوديا أو قطريا أو كويتيا أو إيرانيا. وهكذا يبدو أن 6 إبريل تولد من جديد.. تتوب أو تصحح نفسها.. أو ربما تتجمل لتلائم المرحلة القادمة والقفزة القادمة.. ولكن هل يمكن أن تكون توبتها صادقة؟ الله وحده أعلم.