لعبت المؤسسة العسكرية فى عهد عبد الناصر، دور الوصى الوطنى تحت قيادة الضباط الأحرار، وهو دور نبع من داخل المؤسسة بفعل عدم الاستقرار السياسى وحرب فلسطين. وكان دورا عضويا ولم يكن مفروضا عليها من الخارج. لكنها تحولت عن هذا الدور فى عهد السادات، وأحد شواهد ذلك التحول هو قيام السادات بإبعاد العسكريين من دوائر الحكم. ففى حين أن النسبة المئوية لضباط الجيش الذين شغلوا مناصب وزارية تراوحت عادة من 40 إلى 60 بالمائة معظم فترة رئاسة عبد الناصر، كانت هذه النسبة أقل من 10 فى المائة بحلول نهاية عام 1976. وحلت "الشرعية الدستورية" محل دور الوصاية، وهذا راجع فى المقام الأول إلى السادات، الذى أصر على وجود سلسلة تراتبية صارمة للقيادة تقول بوضوح: "إن الجيش أداة من أدوات الدولة، وساعد السادات فى ذلك، تركيز الجيش على استعادة السيادة المصرية على سيناء، فقد انشغلت المؤسسة العسكرية بتكوين جيش محترف يرى نفسه ذراعا من أذرع السلطات الدستورية، مع التركيز على القتال ضد إسرائيل". ومنذئذ لم يعد الجيش هو إقطاعية عبد الحكيم عامر ولا مستودعا من مستودعات الناصرية، فقد نزعت عنه الصبغة السياسية، وبدا منشغلا بأمور احترافية شغلت وقته واستوعبت طاقته. وكانت الصبغة المهنية التى اصطبغت بها المؤسسة العسكرية موائمة لصيغة الانفتاح السياسى التى فرضها السادات فرضا من أعلى لأسفل، فالجيش وإن لم يكن هو صاحب رؤية الانفتاح السياسى، إلا أنه لم يفعل ما يعارضها، ولم يكن من سبب وجيه ليفعل. وساعد السادات فى ذلك خلفيته العسكرية مع أنه كان رئيسا مدنيا يتمتع بآفاق واسعة بشأن الدولة والعلاقات المدنية- العسكرية، ومن ثم، كان لمعرفة السادات بالجيش وسيطرته الحاسمة عليه بصمة واضحة فى رسم معالم هذه العلاقات. وبنهاية عهد السادات، ومع إبرام السلام مع إسرائيل، بحث السادات عن مهمة جديدة للجيش. وبحلول العام 1980 ظهرت فكرة "جيش التعمير"، وهو الوصف الذى أطلق على مهمة الجيش فى إقامة البنية الأساسية، وهى مهمة اختلفت عن مهمة "جيش التحرير" التى سادت أوائل السبعينيات. وطوال عهد مبارك، كانت الصبغة المهنية هى الغالبة على الجيش طوال الثمانينيات، وتحت قيادة المشير أبو غزالة تحول تركيز المؤسسة العسكرية من الدفاع الخارجى إلى دعم الاقتصاد الوطنى. وكانت علاقة مبارك الرئيس، مع أبو غزالة المشير علاقة أنداد أو تكاد، مع صعود نجم أبو غزالة بمرور السنين. وأصبح من الواضح أن علاقة تبعية القيادة العسكرية للرئيس التى فرضها السادات تآكلت أو فى سبيلها إلى ذلك، ولعل هذا هو ما دفع مبارك إلى التخلص من أبو غزالة فى فضيحة لوسى أرتين فى 1989. وكان لنموذج المؤسسة العسكرية التجارية الذى ساد فى عهد مبارك إيجابياته وسلبياته، فقد منح الجيش فى وقت السلم مهمة بديلة، وبدلا من إعداد مصر للحرب مع إسرائيل أو البحث عن فرص للتدخل فى السياسة، كان بوسع القوات المسلحة بناء البينة التحتية الوطنية وتطويرها. أما على الجانب السىء، فإن هذا النموذج التجارى العسكرى قلص من المهنية العسكرية، ولهذا التطور مخاطره فى الأجل الطويل، إذ إن الجيش الأقل مهنية أكثر عرضة للتأثر بالمؤثرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ومن وجهة نظر السلطة التنفيذية المدنية، قد يؤثر هذا على كل من كفاءة الجيش الاحترافية واستجابته للأوامر. لكن مع سقوط مبارك المفاجئ نسبيا وجدت المؤسسة العسكرية نفسها فى تحدى البحث عن دور جديد لها تضمنه بنود دستورية، ومن ثم ظهر الصراع بين فريقين، الأول وفى طليعته الجيش يسعى إلى وضع "الدستور أولا"، والثانى يسعى إلى عقد انتخابات الرئاسة أولا، وهذا الفريق الثانى يحدوه الأمل فى أن التجربة التاريخية تقول: "إن الانفتاح السياسى فى مصر بدأه وسيطر عليه سلطة تنفيذية مدنية". ومن ثم، بوسع القيادة المدنية القوية أن تمارس نفوذها وتحدد الدور الذى يقوم به الجيش.