قبل الحديث عن محاولة اغتيال الدكتور علي جمعة مفتي مصر السابق، فإننا نجدد إدانة العنف، والتحريض عليه، ونرفض تماما فكرة الاغتيال تحت أي مسمى، أو مبرر، فهو عمل إرهابي شنيع. لكن السؤال هنا: لماذا اغتيال علي جمعة اليوم؟. لا منطق، ولا عقل حاكم، للتخطيط لاغتياله، والخلاص منه، لدى من فكر ودبر وسعى في تنفيذ الجريمة؟. إذا كانت تلك المحاولة وراءها الحركة التي أعلنت مسؤوليتها عنها، فإنها تكون عملية غبية جدا، وهذه الحركة تكون نموذجا في الغباء، ومجرد نشوء حركة مثل هذه يعني انتحارا جماعيا لعناصرها أجلا أم عاجلا، فلن تُترك أمنيا، وأخطر ما يمكن أن يواجه المجتمعات هى حركات الاغتيال والعنف السياسي والديني، ومصر عانت من هذا العنف قديما، ولاتزال تعاني منه، فهو لا يتوقف حتى يتجدد، صعودا وهبوطا حسب طبيعة الأوضاع السياسية السائدة، ولم يُكتب لأي حركة تنتهج العنف أي مستقبل، أو احتضان اجتماعي في مصر، بل يكون مصيرها الاندحار. معروف أن الدولة فقط، أي دولة، هى من يجب أن تحتكر ممارسة العنف المنظم في إطار القانون والعدالة، وعندما يحدث تجاوز منها تكون هناك رقابة عليها ومحاسبة لها، وبالتالي يستحيل تفهّم فكرة أن يحتكر العنف أيا كان غير الدولة سواء كان من فرد أو تنظيم أو حزب سياسي، فهذا يقود إلى مهاوي الاحتراب الأهلي، وشيوع الفوضى المسلحة، وتهديد كيانات الدول. توقيت محاولة الاغتيال مريب، ومن يضمر في نفسه ارتكاب هذه الجريمة كان ذلك أكثر منطقية مثلا وهو في عنفوان هجومه على جماعة الإخوان عقب عزل مرسي، وبعد فض رابعة والنهضة، حيث ينسب إليه خصومه أنه قدم فتاوى دينية لقتل من اعتبرهم خوارج العصر، وهو أبرز علماء الدين الذين يواجهون الجماعة في مختلف المنابر التي يظهر فيها ويتحدث منها، ويساعده في حملته سعة إطلاعه، وتعمقه في قراءة تاريخ الجماعة، وهناك في الإخوان من يتهمونه بالمغالطات في وقائع وأحداث يسردها ضدهم، ويقولون إنه يتعمد تشويههم لاعتبارات سياسية ولانحيازه للنظام الحاكم، هناك معركة سياسية وكلامية حقيقية بين الطرفين، هو رأس الحربة دينيا تجاه الجماعة، وهذا يجعل له خصوم وأعداء كثر منها، ومن المتعاطفين معها، لكن كلامي هذا ليس تبريرا بأثر رجعي للتفكير في المس به أو بغيره ممن لهم مواقف وآراء مضادة للإخوان، فكرة الاغتيال مرفوضة مطلقا من حيث المبدأ والمنتهى من أي جماعة أو حركة مهما كان توجهها السياسي والأيدلوجي يمينيا أو يساريا أو دينيا تجاه من تعتبرهم خصوما لها، الفكر والرأي يُواجه بمثله فقط، وسفك الدم والتحريض عليه قضية محرمة من أي كان. الدكتور علي جمعة يختفي تدريجيا من المشهد الرسمي، فلم يعد خطيب الرئاسة في المناسبات الدينية والاحتفالية، وقد حل محله الدكتور أسامة الأزهري الذي صار مستشاراً دينيا للسيسي، ولم يعد يظهر إعلاميا بشكل مكثف كما في السابق، إلا في برنامج "والله أعلم"، على قناة سي بي سي، ولا أعلم هل نسب المشاهدة ثابتة، أم تتراجع لأن البرنامج مستمر منذ فترة طويلة، وأحيانا قد يتسرب الملل لنفوس المشاهدين من أي برنامج يطول أكثر من اللازم، لكن جمعة له جمهور الذي يميل إلى الفتاوى التي تصدر منه، وإذا صح وجود تلك الحركة التي أعلنت مسؤوليتها عن محاولة الاغتيال، فإنها بحماقتها تقدم خدمة جليلة ل جمعة، والسلطة، فهى تعيده للمشهد مجددا، وتؤكد أنه بطل وشهيد ضد التطرف والإخوان، وتلف حبل تهمة الاغتيال مجددا حول أعناق الإخوان، وتستبعد فكرة التهدئة معهم للوصول إلى شكل من التصالح، أو التقارب الوطني. ومحاولة الاغتيال المدانة توفر للسلطة مبررات جديدة لمواصلة التضييق على جميع التيارات والأصوات التي تختلف مع سياساتها من اليمين إلى اليسار، ومواصلة عمليات التعقب لعناصر الإخوان وتوسيع دوائر الشكوك فيهم والقبض على المزيد منهم، واستمرار التهرب من استحقاقات الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان تحت ذريعة لا صوت يعلو على صوت محاربة الإرهاب، كما ينشغل الناس بالاغتيال، وينسون قضاياهم الأساسية، ومنها مثلا قرض صندوق النقد الدولي، وانخفاض قيمة الجنيه، وموجات ارتفاع الأسعار الحالية والقادمة، وضريبة القيمة المضافة، وسد النهضة، وقائمة طويلة من الأزمات الخطيرة. أيا كانت تلك الحركة فإنها مرفوضة، هى جماعة عنف، تلحظ الصبيانية والبدائية فيها، ولغة بيانتها تثير النفور منها، وقد تصفحت الحساب المنسوب إليها على الفيسبوك فوجدت الأغلبية العظمى من المعلقين على بيان محاول اغتيال جمعة يهاجمونها بعنف ويستخدمون ألفاظا مهينة ضدها، وهذا لافت إذا لا جمهور لها على حسابها الخاص. الشيخ علي جمعة عالم دين كبير ومتعمق وقارئ ومثقف، استمع إليه عندما يتحدث في الدين، لكن انخراطه في السياسة، وتحوله إلى طرف فيها شوش على صورته، وتقديري الشخصي أن علماء الدين الأجلاء يجب ألا يكونوا طرفا سياسيا ومجالا للخصومات والتحزبات، إنما يكونون للجميع، فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر مثلا لم يسقط في منزلق السياسة فحافظ على وقار وهيبة الأزهر جامعا وجامعة ومشيخة. هناك منطق مهم ومقبول في ضرورة عدم توظيف الدين بأي شكل في السياسة وخلافاتها وصراعاتها. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.