انثالت إلى الذاكرة الشائخة، أحداث ندوة فضائية بالجامعة الأمريكية فى دبى قبل عامين، وكانت بإدارة الزميل سليمان الهتلان، وكانت بعنوان: (الليبرالية: فوضى الفهم وسوء التمثيل)، وشرفت بالمشاركة مع المفكر العربى السورى طيب تيزينى والدكتورة ابتهال الخطيب، أحد الأصوات الليبرالية الكويتية، ومعى زميلى الكاتب يحيى الأمير، وختمت تلك المشاركة بتأكيدى بالقول: "إن أراد الليبراليون الحقيقيون فى بلادنا -لا أولئك الانتهازيون الممتطون كل موجة صاعدة والذين شوهوا فعلا مبادئها بسلوكهم القمىء الذى يناقض أولى مبادئهم- فى منطقتنا اختصار الجهد والوقت، فعليهم الاستفادة من بعض قيم الليبرالية وضبطها من خلال الإسلام وأحكامه، مع صدق الانتماء والاعتبار للشريعة، وأن يجعلوا الإسلام هو الحاكم والمرجعية، وإلا فستظل جهودهم هباء، وسيحرثون فى بحر الوهم". ما أعاد تلك الحادثة، هو ما نقرأه اليوم من تبرير سدنة الليبرالية العربية اليوم من السقوط المدوّى للتيارات الليبرالية كقطع الدومينو على امتداد العالم العربى، وفى أى قطر عربى عرف انتخابات نزيهة أمام التيارات الإسلامية التى اكتسحت بأغلبية كبيرة. يبرّر هؤلاء السدنة بأن المنتصر فى هذا الربيع العربى هى الليبرالية وقيمها، ممتثلين نهج فرانسيس فوكوياما الذى فسّر انهيار الاتحاد السوفيتى، على أنه انتصار للقيم الرأسمالية ونهاية للتاريخ، ولعل عناوين من مثل: (انتصار الليبرالية وانهزام الليبراليين) لسيد ولد أباه، و(تعرضون بضاعتنا باسمنا) لزميلنا عقل الباهلى، و(الثورات العربية: ليبرالية النخب وإسلامية الجمهور) لرضوان السيد، و(الليبراليون كسبوا المعركة) لأستاذنا الكبير عبد الرحمن الراشد، والذى سطّر فى مقالته الآنفة ومرّر فكرته باحترافية مذهلة: (الحقيقة أن الليبراليين كسبوا بما لم يحلموا به، كسبوا النظام، مصر وتونس تبنتا الفكر الليبرالى، فالاحتكام للصندوق الانتخابى، والقبول بمبدأ الحريات، والاعتراف بالحقوق والحريات للجميع، للنساء والأقليات الدينية، كلها قيم ليبرالية، لقد فاز الليبراليون على ظهور الخيول الإسلامية والقومية وغيرها ممن انخرط فى العملية السياسية الجديدة، يا أخى حمد.. صدقت، خسر الليبراليون، لكن فازت الليبرالية". المفكر اللبنانى رضوان السيد، كتب: "إن للثورات العربية وجهان: الوجه الليبرالى الذى وضع النصاب والآفاق، والوجه الإسلامى الذى مثل أشواق الناس للحرية، وقديما قال المفكر اللبنانى منح الصلح بعروبة النخبة وإسلام الجمهور، وها هو إسلام الجمهور يظهر ويعتز، بينما تنتصر ليبرالية المناضلين العرب!. وذهب الزميل عقل الباهلى، إلى أن "مصداقية إسلاميى السعودية اهتزت أمام الناس لأن القوى المتمدنة والليبرالية هى من يناصر مشروع الإسلام السياسى الجديد، لأنه ببساطة قبل بركائز مشروع التنوير وتخلى عن شعار الإسلام هو الحل". بالتأكيد أن هذا التبرير من قبل هؤلاء الليبراليين هشّ لا يستقيم، فالشعوب العربية انحازت للتيارات الإسلامية، من تونس إلى مصر إلى المغرب، وأخيراً -وليس آخراً- فى الكويت، لأنهم رفعوا الشعارات الإسلامية، وليس لأنهم تبنوا القيم الليبرالية، وثمة مثال واحد من أمثلة عديدة تسقط تلك الحجة الباهتة، فأحبتنا هؤلاء يتذكرون الانتخابات المصرية التى أجريت فى العام 2005 م، والاكتساح الإخوانى وقتها، وكان الشعار وقتذاك: (الإسلام هو الحل)، وأقام مبارك وقتها مناحة لدى الكاوبوى الأمريكى، وقام بإرهابهم بالمتطرفين ذوى اللحى، ما جعله يقوم بالتزوير فى الجولة الثانية بتواطؤ وصمت أمريكى معيب، لا دخل للشعارات بقدر ما هى قناعة لدى الشعوب بأن هؤلاء الإسلاميين يمثلون ضمير الوطن، وأن أيديهم نظيفة لن تمتد لأقواتهم، وأنهم الأقدرعلى خدمة أوطانهم، والأكثر ولاء وإخلاصاً بالطبع. من جهة أخرى، نأتى للشعارات التى يسوّق الليبراليون بأن الإسلاميين تبنوها، ولنأخذ الحرية مثالاً، فهى لدى الليبراليين -بما يجىء فى تعريفات أساطينهم- ما يقوله عبدالله العروى: "الليبرالية تعتبر الحرية المبدأ والمنتهى، الباعث والهدف، الأصل والنتيجة فى حياة الإنسان"، أراهن أولئك السدنة بأن أى حزب إسلامى يقدّم الحرية بهذا التعريف الليبرالى القحّ، فسيسقط مباشرة فى ثانى يوم على أمّ رأسه، وسيسحب المواطن البسيط ترشيحه، ويعتبر هذا الحزب خارجاً عن الإسلام، مهما كانت إسلامية هذا الحزب وعراقته، فمفاهيم العدالة والحرية والحقوق الشخصية وكثير من أقانيم الليبرالية، إنما هى مفاهيم إنسانية عامة، وجدت عبر مئات السنين قبل الليبرالية، وجلّها من صميم الإسلام، وإن أغفلت بالطبع لحقب وظهرت فى حقب، ولكنها مفاهيم إسلامية صميمة، وهذه الأحزاب الإسلامية وقتما تطرحها، فهى تطرحها بذائقتها ورؤيتها هى، وتعريفها المتساوق والشريعة، فلا تصادمها، فادعاء الليبرالى أنّ تلك القيم التى تطرحها الأحزاب والجماعات الإسلامية، إنما تمثله، هو ادعاء ساقط، لأنه لو سمع به فولتير وجون ستيوارت ملْ وبقية كهنة الليبرالية الغربية التى أنشأوها، لأوسعوهم ضرباً بالنعال، وتبرأوا منهم. فى الحقيقة لا أهتم كثيراً أبداً بتلك المماحكات، بقدر ما أضع أحبتنا هؤلاء أمام رهان عليهم أن يثبتوه، فإن كانوا مؤمنين حقاً بقيمهم الليبرالية، وحريصون على إشاعتها، فليبادروا لمساندة الإسلاميين فى تكريس تلك القيم واقعاً فى المجتمعات العربية، فتجذيرها – حتى ولو بالرؤية الجزئية- هو نجاح يفيد به الجميع، وأولهم المواطن العربى، أما الدخول فى المماحكات الإعلامية وادعاء الانتصار، والتهكم بأن جماعات الإسلام السياسى لم يصلوا ولم ينتخبوا إلا لأنهم تبنوا القيم الليبرالية، فهذا محضّ وهم وهراء، وإلا لماذا هذا السقوط الفضيحة للتيارات الليبرالية العريقة كحزب الوفد ذى التاريخ الممتد إلى الملكية المصرية؟، بل أين الأحزاب التونسية الليبرالية، وهى التى كانت تتمدد كما يحلو لها فى ظل نظام بن على- كانت تونس أسوأ مثال للتطبيق الليبرالى العربى- المستبدّ، غير ناسٍ الأحزاب المغربية، وأخيراً فى الكويت، ما يجعلنا نعود للحقيقة الأكيدة بأن هذه التربة العربية لا تنبت فيها ولا تشيع، إلا تلك القيم التى تنطلق من هويتها الدينية أبداً. يحكى محمد السيد ولد أباه، الكاتب الموريتانى فى مقالة أخيرة له، قال فيها: "أذكر أننى سألت مرّة المفكر المغربى الراحل محمد عابد الجابرى، عن سبب انتقاله من الدراسات الأبستمولوجية والتحليل الإيديولوجى إلى الأفق التراثى، فردّ على بالقول إنه توصّل إلى أن المعركة الحاسمة بين التيارات السياسية تُخاض داخل حقل المشروعية الإسلامية التى هى المرجعية الحقيقية للجماهير العريضة". من المؤكد أن قيم الحرية (المنضبطة إذ ليست هناك حرية طلقة فى العالم) والعدالة والشورى هى قيم الإسلام الأصيلة، والغريب أنها كانت مغيبة من الأنظمة بدعم من تيارات الليبرالية واليسار (عداءً للإسلاميين). وكذلك حال حقوق المرأة التى كرّمها الإسلام، بينما كان الغرب يناقش فى طبيعتها إن كانت آدمية أم شيطانية. والجماهير التى اختارت الإسلاميين لم تفعل ذلك لأنهم لن يمنعوا الخمر والبكينى، بل لأنهم يحملون مشروع حرية وكرامة وعدالة فى توزيع الثروة، وبعد ذلك مشروع وحدة للأمة. ولا قيمة للنظر لبعض التصريحات التى يطلقها هؤلاء تخذيلاً عن أنفسهم فى مواجهة هجمة غربية عاتية وليبرالية يسارية شرسة، لكن العقلاء يدركون أنّ كل ذلك لا يلغى أنّ لهم برنامجهم للدولة والمجتمع الذى يلتقى فى بعض جوانبه مع القيم الليبرالية بطبعتها الغربية (وهى نتاج تجربة إنسانية)، ويفترق معها أيضًا فى تقديمها لحرية الفرد على مصلحة المجتمع، وفى قضايا كثيرة ذات صلة بالبعد الاجتماعى والاقتصادى والسياسى. والخلاصة أنّ لدى الإسلاميين رؤيتهم، ولكن هذه الرؤية لن تتحول إلى واقع قبل تحقيق إجماع شعبى على المرجعية الإسلامية، الأمر الذى سيستغرق وقتاً طويلاً وجهداً كبيراً، تماماً كما حدث فى الغرب الذى لم يصل إلى ما وصل إليه إلا بعد زمن طويل من الحروب والمساومات. اختصروها يا أحبتنا، وهلمّوا لدعم هؤلاء الإسلاميين، بدلاً من مناهضتهم والدخول فى معارك هامشية لا يفيد منها أحد، ودعوتى للقلة القليلة فقط من هؤلاء الليبراليين الحقيقيين الذين يأخذونها كلاً كاملاً، وهم من أراهن عليهم فى استيعاب دعوتى، وأما البقية الأكثر- من النخبة الليبرالية المجهرية فى خارطتنا الفكرية- فالليبرالية عندهم هى مطيّة لتحقيق مآرب شخصية أو تأدية أدوار لحساب جهات سياسية، لذلك لا تعويل عليهم. سؤال أخير: إذا كان الإسلاميون قد أصبحوا ليبراليين برأيكم أيها الليبراليون، فلماذا لا تكفوا ألسنتكم عنهم، حتى لا نقول لماذا لا تساندونهم بالفعل وباللسان؟! * إعلامى وكاتب سعودى