يقوم استقطاب مجتمعى وسياسى بين التيار الإسلامى (بجميع تدرجاته) والتيار الليبرالى (بجميع تدرجاته) على أسطورة الفجوة الأيديولوجية بين التيارين واستحالة قيام جسور بينهما، ومن هنا يتناول المقال بعض النقاط ذات الصلة، بهدف طرحها للنقاش المجتمعى العام. أولا: يرتكز الاستقطاب على أسطورة التنافر الأيديولوجى والقيمى، ويرجع الانقسام الحاد بين المصريين إلى تبسيط مخل للحقائق المركبة وانعدام الثقة بين الطرفين وفهم إجرائى مبتسر لكيفية تطبيق كل من المشروعين (على سبيل المثال، التخويف من شيوع المثلية فى حال التيار الليبرالى فى مقابل التخويف من تقييد الحريات الاجتماعية فى حال التيار الإسلامى)، وهنا تجدر التفرقة بين التغريب واستيراد أنساق قيمية، وبين قيمة الحرية التى يعلى من شأنها التيار الليبرالى، ولذا نحتاج إلى تأصيل مفهوم الليبرالية فى تراثنا العربى والإسلامى الذى يحوى شواهد ونصوصا كثيرة بالفعل ضد الاستبداد والسلطوية تحاول قلة من علماء الدين الإسلامى تأصيله، وإن كان مصطلح الليبرالية نفسه حديثا فلنؤصل مدلوله ونبدع له مصطلحا عربيا صميما، فالمهم هو المعنى والممارسة لا المصطلح. ثانيا: يوجد التطرف والاعتدال داخل كل تيار، ولا يمكن وصم تيار كامل بأنه راديكالى، فإن استطعنا تحطيم قيود نظام متجمد، ألا نستطيع تحطيم قوالب نمطية تعجز عن استيعاب الواقع المعقد؟ ومن هنا لا يجوز وصف التيار الإسلامى بأكمله بأنه متطرف، لأنه يضم كثيرا من المعتدلين، وبالتالى يوجد ليبراليون متعصبون مثلما يوجد إسلاميون متعصبون أيضا، وبالعكس لا يجوز وصف أنصار التيار الليبرالى بأنه منحل أو بلا قيم. ثالثا: يركز البعض فى نقده نخبة التيار الليبرالى على أنها منفصلة عن الواقع المجتمعى، لكن يتجاهل هذا النقد أن النخبة ليست فقط علمانية ليبرالية (رغم أن توجه النظام الحاكم كان علمانيا بالفعل)، إلا أن النخبة لا تقتصر على النخبة السياسية فقط، بل توجد نخبة إسلامية موازية، ومنهم مشايخ يحتكرون المعرفة والقدرة على تكفير الآخرين، ولهم مريدون وأتباع لا يشككون فى صحة ما يقولونه، حتى إن أخطؤوا وهم بشر غير معصومين، وبعض النخبة الدينية لا تفكر بالضرورة فى نصرة الإسلام أو تبنى قضايا وطنية فحسب، بل تسعى لبسط نفوذها وتأثيرها السياسى الاجتماعى، وهنا تكمن الخطورة الحقيقية للنخبة التى تصنف نفسها بالتيار الإسلامى، لأنها تؤثر فى الجمهور باستخدام استمالات عاطفية دينية، صحيح أن الإسلام يشتبك مع حياتنا اليومية ونرجع إليه لتقييم سلوكياتنا على أساس دينى أخلاقى، لكن هناك بدائل سياسية لا خلاف على تقييم أنها حلال، وهنا لا يجوز الترويج لرأى سياسى بأنه حرام وهو ليس كذلك، وإلا كان ذلك غشا للناخب الذى وثق برأى النخبة الدينية، ويطرح ذلك قضية الازدواجية بين الهوية الإسلامية الاسمية والممارسات غير الإسلامية. رابعا: تقوم العبادات والشعائر على حرية الممارسة، لا الإجبار، فمن قام بعبادة خوفا أو رياء أو نفاقا لبشر لن تنطلى على الله سبحانه وتعالى، لأنه عالم بما فى الصدور، ولأن الأعمال بالنيات ينتفى ثواب الفضيلة دون حرية اختيارها ضمن بدائل ممكنة، ولا تتنافى حرية الاختيار مع التعاليم الإسلامية لأنها تكون مقيدة بالمسؤولية الدينية الأخلاقية، وذلك ردا على فزاعة التغريب التى تزيد من هواجس وشكوك المواطنين تجاه أولويات التيار الليبرالى نحو المجتمع المصرى. خامسا وأخيرا: ثمة تحفظ على مصطلح التيار «الإسلامى» لاعتبارين، الاعتبار الأول لأنه ينفى صفة الإسلام عن غيره من التيارات ويطرح تساؤلا حول السلطة المرجعية التى تصنف هذا التيار بأنه إسلامى أم لا، أما النقطة الثانية فهى أن العرب والمسلمين يجتهدون لفصل الإسلام ذهنيا عن سمات العنف والتطرف والإرهاب فى الغرب، لكن عندما يتردد فى الخطاب السياسى الإعلامى أن بن لادن ينتمى للتيار الإسلامى المتشدد «Radical Islamist» الذى يرى جواز المقاومة من خلال قتل المدنيين حتى إن لم يكونوا معتدين (وهو فى هذه الحالة يختلف مثلا عن المقاومة الفلسطينية التى تربط عملياتها بالأرض المحتلة)، نجد أن التيارات التى تنسب نفسها للدين قد تسىء للإسلام ذاته، خصوصا أن المواطن العادى فى الغرب لا يفرق بالضرورة بين مصطلحات الإسلام كدين «Islamic» والإسلامى كتيار سياسى «Islamist» والمسلمين «Muslim» كأفراد، وبالتالى يصبح تفكيك العلاقة بين تيار سياسى ينافس على مقاعد فى البرلمان يخطئ ويصيب من جهة وثوابت العقيدة من جهة أخرى من الضرورات، وإلا وجدنا أن تلون مواقف بعض المشايخ قد يؤذى أكثر مما ينفع، وحتى الآن لم يفرز الواقع والخطاب السياسى مصطلحا بديلا شائعا وإن حاولت بعض الاجتهادات أن تروج لمصطلحى «المتأسلم» و«الإسلام السياسى»، إلا أنهما لم يخرجا من المأزق التعريفى كما أنهما لم يلاقيا رواجا فى الخطاب غير الأكاديمى، وأجدنى مضطرة لاستخدام مصطلح «إسلامى» لإيجاد أرضية مع القارئ حتى يظهر مصطلح متعارف عليه. فى النهاية علينا أن نتذكر ما كتبه المستشار طارق البشرى فى كتابه «بين الإسلام والعروبة» أن كلا من التيارين لن يقدر على إلغاء بعضهما البعض، وأن الأجدر هو السعى لتحقيق التقارب والتآزر بينهما فى صيغة توافقية، وهنا يبقى الأمل معقودا على المعتدلين والوسطيين فى كل من التيارين الليبرالى والإسلامى الذين لا يميلون للغلو ونفى الآخر، بهدف صياغة ملامح تيار مسلم ليبرالى يجمع بين قيمة الحرية السياسية والمواطنة وتقبل التعددية فى ما يجوز فيه الخلاف، مع المحافظة الأخلاقية فى إطار من المحاسبة والمسؤولية.