رغم أن حمامات الدم لم تتوقف في سوريا منذ اندلاع الانتفاضة الشعبية ضد حكم الرئيس بشار الأسد في مارس من العام الماضي، إلا أن المذبحة المروعة التي شهدتها مدينة حمص ليلة المولد النبوي الشريف تبعث برسالة للقاصي والداني مفادها أن النظام السوري بدأ بحرب إبادة ضد البشر والحجر في إطار مخططه الشيطاني لخلط الأوراق وإشعال حرب أهلية في البلاد. بل وهناك من رجح وقوع العشرات من المجازر على غرار ما حدث في حمص خلال الأيام المقبلة بعد "الفيتو" الذي استخدمته روسيا والصين في 4 فبراير ضد مشروع القرار العربي الغربي الجديد في مجلس الأمن الدولي حول سوريا، خاصة أن هذه لم تكن المرة الأولى التي تقوم فيها بكينوموسكو بحماية الأسد من العقاب. هذا بالإضافة إلى أن مجزرة حمص جاءت متزامنة مع جمعة "عذرا حماة سامحينا"، التي شهدت خروج مظاهرات حاشدة في 3 فبراير في الذكرى السنوية الثلاثين للمذبحة التي نفذتها قوات الرئيس الراحل حافظ الأسد في 2 فبراير 1982 وعلى مدى أربعة أسابيع في مدينة حماة، ردا على احتجاجات نفذتها جماعة الإخوان المسلمين، ما أسفر حينها عن سقوط عشرين ألف قتيل، بحسب بعض التقديرات، في حين تقول المعارضة السورية إن الرقم تجاوز أربعين ألفا. * تفاصيل مجزرة حي الخالدية وكان المجلس الوطني السوري المعارض أكد في بيان له سقوط أكثر من 330 قتيلا ونحو 1600 جريح في قصف عشوائي وعمليات عسكرية نفذها الجيش النظامي الموالي للأسد في مدينة حمص في وسط البلاد وتحديدا في حي الخالدية منذ مساء الجمعة الموافق 3 فبراير، واصفا الهجوم بأنه أحد أكبر المذابح المروعة منذ بداية الانتفاضة في سوريا. بل وحذر البيان من أن قوات الأمن السورية تستعد لشن هجمات مماثلة حول دمشق وفي بلدة جسر الشغور في شمال البلاد، خاصة بعد استخدام روسيا والصين في 4 فبراير حق النقض "الفيتو" ضد مشروع القرار العربي الغربي الجديد في مجلس الأمن الدولي الذي كان يطالب الأسد بالتنحي.وكان عدد من أهالي حمص أكدوا لوكالة الصحافة الفرنسية أن القوات السورية بدأت قصف حي الخالدية في حمص ليلة المولد النبوي الشريف، مستخدمة نيران المدفعية وقذائف الهاون ، فيما كشف المتحدث باسم لجان التنسيق المحلية في سوريا عمر إدلبي أن أكثر من 350 قذيفة هاون سقطت على حي الخالدية وأن 36 منزلا على الأقل هدمت تماما فيما كانت عائلات بداخلها، متوقعا ارتفاع حصيلة القتلى بالنظر إلى العدد الكبير من المصابين ، من بينهم عشرات الأطفال والنساء. وفي السياق ذاته، وصف المرصد السوري لحقوق الإنسان ما حدث في حمص بأنه "مجزرة حقيقية"، وتحدث عن نقص كبير في إمدادات الدم ووجود حاجة ملحة للتبرع، بينما أكد شهود عيان منع الجيش السوري نقل الجرحى إلى المستشفيات. ومن جانبه، أوضح عضو الهيئة العامة للثورة السورية هادي العبد الله أن توقف القصف للحظات في 5 فبراير دفع الناس للخروج لرفع الأنقاض وانتشال جثث القتلى وإسعاف الجرحى والبحث عن المفقودين، مشيرا إلى أن الآلاف شاركوا في تشييع الضحايا، فيما كانت المساجد تكبر والكنائس تقرع الأجراس في حمص تحية لشهداء الخالدية. ورغم بشاعة ما سبق، إلا أن مصدرا إعلاميا سوريا نفى استهداف أحياء حمص بالقصف، وزعم أن ذلك يأتي في إطار التصعيد من قبل المجموعات المسلحة والمجلس الوطني السوري المعارض لاستغلالها في مجلس الأمن ضد دمشق. ونقلت وكالة الأنباء السورية "سانا" عن المصدر، الذي لم تسمه، قوله :" إن الجثث التي عرضتها بعض قنوات التحريض هي لشهداء من المواطنين اختطفتهم المجموعات الإرهابية المسلحة وقتلتهم وصورتهم على أنهم جثث لضحايا القصف المزعوم". وتابع "حملة الفبركة والتحريض والتأجيج من قبل بعض القنوات تنتقل إلى مناطق بريف دمشق وعدد من المحافظات السورية، في محاولة للتأثير على مجلس الأمن والتغطية على جرائم واعتداءات المجموعات الإرهابية المسلحة". وبالنظر إلى أن المزاعم السابقة تتناقض تماما مع المشاهد التي عرضتها الفضائيات لجثث العشرات من ضحايا المجزرة والتي بينها أطفال ونساء، فقد ظهرت ردود أفعال غاضبة جدا أكدت أن نظام الأسد لن ينجو بفعلته طال الزمن أو قصر. *دعوات لإحالة مرتكبي القصف العشوائي للمدنيين للجنائية الدولية* ففي بيان لها في 5 فبراير، طالبت جماعة الإخوان المسلمين في سوريا بإحالة المسئولين عن "المجزرة المروعة" في حي الخالدية إلى المحكمة الجنائية الدولية واتهمت الرئيس بشار الأسد بتحويل أحياء حمص إلى "ساحة حرب حقيقة" وخوض "حرب إبادة جماعية" ضد أبنائها. كما شهدت كل مخيمات اللاجئين السوريين في تركيا مظاهرات غاضبة استنكارا لما وصفوه بالمجزرة الوحشية في حمص، وطالب المتظاهرون المجتمع الدولي بالوقوف بحزم لوضع حد لما قالوا إنها جرائم ضد الإنسانية يرتكبها النظام السوري. وفي السياق ذاته، أكد وزير الخارجية التونسي رفيق عبد السلام أن حكومة بلاده اتخذت قرارا بطرد السفير السوري لديها، فيما أعلن الرئيس التونسي المنصف المرزوقي أن بلاده سحبت اعترافها بشرعية حكم الأسد، وذلك في وقت دعا فيه رئيس البرلمان العربي سالم الدقباسي الدول العربية لطرد السفراء السوريين المعتمدين لديها. وقال عبد السلام في مقابلة مع قناة "الجزيرة" إن قرار الحكومة التونسية جاء احتجاجا على المجازر التي جرت في حمص وفي غيرها من المدن السورية، موضحا أن وزارته ستستدعي سفيرها في دمشق أيضا. وتوقع الوزير التونسي أن تحذو معظم الدول العربية حذو بلاده في هذه الخطوة، وخص بالذكر مصر والمغرب ودول الخليج، قائلا :"نحن ننسق مع شركائنا في الدول العربية". وأضاف أن هناك ما يشبه الإجماع العربي على هذه الخطوة من أجل الضغط على نظام الأسد حتى يستجيب للمطالب المشروعة للشعب السوري، قائلا:"هناك مجازر وقتل عشوائي لا يمكن أن يبرره الضمير الأخلاقي والإنساني، تونس مثلما كانت سباقة في انطلاق الثورة، من المنطقي أن تكون سباقة في تضامنها مع أشقائها في سوريا". ومن جانبه، دعا الرئيس التونسي المنصف المرزوقي الرئيس بشار الأسد إلى التنحي فورا عن السلطة وفسح المجال للانتقال الديمقراطي في سوريا. وجاء في بيان صادر عن المرزوقي أن الدولة التونسية بعدما تابعت ما يتعرض له الشعب السوري من مجازر، فإنها بدأت بالإجراءات العملية لطرد السفير السوري من تونس، كما تعلن سحب اعترافها بالنظام الحاكم في دمشق، وتدين المجازر التي ارتكبها في حمص ليلة المولد النبوي الشريف. كما دعا رئيس البرلمان العربي سالم الدقباسي في بيان له نشره في القاهرة الدول العربية إلى طرد السفراء السوريين المعتمدين لديها والمنتمين إلى نظام الأسد، الذي ما زال يمارس أقصى عمليات القتل والقمع والتنكيل بالشعب السوري الذي يطالب بالحرية والكرامة، كما طالب بقطع العلاقات مع دمشق. وهاجم الدقباسي موسكو، قائلا :" الموقف الروسي يتيح استمرار النظام السوري في استخدام الحل الأمني لقتل المدنيين وإجهاض كل المبادرات والحلول السياسية التي تهدف إلى إنقاذ الشعب السوري من وحشية نظامه". ومن جانبه، دعا الشيخ يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الشعوب العربية والإسلامية وأحرار العالم إلى تقديم الدعم والنصرة لأهالي سوريا الذين يقتلون على يد نظام الأسد. واللافت إلى الانتباه أن ردود الأفعال الغاضبة لم تقف عند ما سبق، حيث تعرضت سفارات وقنصليات سوريا في مصر والكويت وليبيا وبريطانيا والولايات المتحدة وألمانيا لهجمات ولمحاولات اقتحام نفذها سوريون مغتربون، احتجاجا على المجزرة التي وقعت في حمص. ففي مصر، قال مسئول في السفارة السورية في القاهرة إن حشدا غاضبا اقتحم مبنى السفارة وحطم أثاثها وتجهيزاتها وأضرم النيران في أجزاء منها، كما نظم نشطاء سوريون اعتصاما أمام السفارة السورية في واشنطن للمطالبة بالإطاحة بحكم الأسد وللتنديد بالموقفين الروسي والصيني لاستخدامهما حق النقض في مجلس الأمن ضد مشروع القرار العربي الغربي ضد سوريا. وفي العاصمة الليبية طرابلس، نزع المتظاهرون علم الجمهورية السورية الحالي، ورفعوا مكانه علم الثورة وسيطروا على المبنى الذي لم يكن بداخله أي من الموظفين. واقتحم سوريون وكويتيون السفارة السورية في الكويت، وقاموا بإنزال العلم وإتلاف بعض محتويات المبنى، كما تسببوا في إصابة عدد من رجال الأمن المعنيين بحراسة السفارة، وألقت وزارة الداخلية الكويتية القبض على عدد منهم. كما تجمع حوالي 150 شخصا أمام السفارة السورية بلندن للتنديد بتصاعد القمع ضد المدنيين، وأوقف خمسة منهم بتهمة "المس بالنظام العام" بعد أن اقتحموا مقر السفارة. وفي برلين، أعلنت الشرطة الألمانية في بيان لها أن حوالي 20 شخصا اقتحموا مقر السفارة السورية وألحقوا بها بعض الأضرار المادية قبل أن تفرقهم الشرطة. * بدائل ما بعد الفيتو* بل وهناك من رجح أن تحمل الساعات المقبلة تصعيدا في هجمات جيش الثوار للرد على مذبحة حمص، خاصة أن ردود الأفعال العربية والدولية الغاضبة على الفيتو الروسي والصيني تشير إلى أن هناك بدائل يتم دراستها لدعم المعارضة السورية على الأرض والتصدي لمجازر الأسد. ففي أول تعليق له على استخدام روسيا والصين في 4 فبراير حق النقض "الفيتو" ضد مشروع القرار العربي الغربي في مجلس الأمن الدولي الذي يتبني المبادرة العربية لحل الأزمة السورية على الطريقة اليمنية، أعلن الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي أن بلاده تتشاور مع دول عربية وأوروبية لتشكيل مجموعة اتصال بشأن سوريا. وفيما أدان ساركوزي الفيتو الروسي والصيني ووصفه بأنه يشجع النظام السوري على مواصلة "سياساته القمعية"، استطرد قائلا:" إن فرنسا لن تيأس، وهي على اتصال بشركائها العرب والأوروبيين لإقامة مجموعة أصدقاء الشعب السوري التي ستحشد الدعم الدولي لتنفيذ الخطة العربية". ومن جانبها، حذرت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون من خطر اندلاع حرب أهلية في سوريا بعد لجوء روسيا والصين إلى الفيتو لمنع إدانة دمشق، قائلة :" إذا مورس ضغط دولي جدي على نظام بشار الأسد فمن الممكن الوصول لعملية انتقالية مماثلة لما جرى في اليمن". وقالت كلينتون في بيان لها : "يصعب تخيل أن هناك من قد يمنع المجتمع الدولي من إدانة العنف، بعد أن مرت سوريا بأكثر الأيام دموية حتى الآن، وأريد أن أسألهم : هل نحن بحاجة لمعرفة المزيد لنتحرك بشكل حاسم في مجلس الأمن، لقد أظهرت الحكومة السورية ازدراءها للمجتمع الدولي ولشعبها من قبله". وتابعت "أعلم ما سيحدث...مزيد من إراقة الدماء..مزيد من المقاومة يبديها من تقتل أسرهم وتزايد احتمالات سقوط سوريا في هوة حرب أهلية..تلك هي النتيجة التي يجب أن يتجنبها الجميع". ومن جانبه، أعرب محمد لوليشكي سفير المغرب، الدولة العربية الوحيدة في مجلس الأمن، عن أسفه الشديد وخيبة أمله إزاء موقف موسكووبكين، فيما قال السفير الفرنسي في الأممالمتحدة جيرار أرو :"إنه يوم حزين لمجلس الأمن وللشعب السوري، الصين وروسيا اصطفتا إلى جانب نظام يذبح شعبه"، مؤكدا مواصلة فرنسا العمل لوضع حد لما وصفه بالكابوس السوري. وكان السفير الروسي فيتالي تشوركين برر استخدام بلاده الفيتو بأن مشروع القرار حول سوريا يبعث برسالة غير متوازنة لأطراف الأزمة السورية، وقال :"مشروع القرار لم يأخذ بعين الاعتبار أن مطالبة الحكومة السورية بسحب قواتها تتم في ظل استمرار الهجوم العسكري عليها"، زاعما أن القرار العربي الغربي يقوض جهود تسوية الأزمة السورية سلميا. أما مندوب الصين لي باودونغ، فقال إن بلاده صوتت ضد المشروع كي تفسح المجال لعملية سياسية لحل الأزمة السورية، معتبرا أن ممارسة المزيد من الضغط على نظام الأسد من شأنها أن تزيد تعقيد الموقف. ويبدو أن المزاعم السابقة تعكس حرص الصين وروسيا على استمرار مصالحهما مع نظام الأسد أكثر من اهتمامهما بالشعب السوري الذي يتعرض للقتل والاغتصاب والاعتقال على مرأى ومسمع الجميع، خاصة أن مشروع القرار العربي الغربي أدخل تعديلات على مسودته الأصلية لإرضاء بكينوموسكو، حيث نص على دعمه الكامل لخطة الجامعة العربية من أجل انتقال ديمقراطي في سوريا، لكنه لم يشر إلى العقوبات أو التلميح بالتدخل العسكري، بل ولم يتطرق أيضا إلى حظر بيع الأسلحة لدمشق.