139 عاماً مرت على أول انتخابات عرفتها مصر ومنطقة الشرق الأوسط عموماً. ففي عام 1866 أجريت الانتخابات لاختيار مجلس أراد حاكم مصر وقتها الخديوي إسماعيل أن يكون استشارياً. ولكن هذا المجلس لم يلبث أن انتزع صلاحيات برلمانية حقيقية في مجال التشريع والرقابة بعد أقل من عامين على تأسيسه. وهكذا سبقت مصر الكثير من دول العالم، بما في ذلك دول أوروبية، إلى الانتخابات التنافسية باعتبارها الأداة الرئيسة في ممارسة الديمقراطية، وربما يكون هذا هو السبب وراء الاهتمام العالمي الواسع بالتغيير الذي يحدث في مصر هذه الأيام، ويضعها على أعتاب مرحلة جديدة. فقد انتظر المصريون أكثر من قرن وثلث القرن، منذ أن عرفوا الانتخابات لأول مرة، لكي تتاح لهم فرصة انتخاب رأس دولتهم من بين أكثر من مرشح. ولذلك كانت التوقعات كبيرة بالنسبة إليهم وإلى العالم. وإذا كانت مصر هي أسبق دول المنطقة من الناحية التاريخية إلى الممارسة الديمقراطية، فمن الطبيعي أن يكون المطلوب منها أكثر من غيرها، الأمر الذي يجعل الانتقال إلى مرحلة جديدة أشبه بمخاض صعب ومؤلم. فمنذ أن قرر رئيس مصر حسني مبارك في 26 فبراير الماضي إجراء تعديل دستوري لتغيير طريقة اختيار رئيس الجمهورية من الاستفتاء على مرشح وحيد إلى الانتخابات بين أكثر من مرشح، أخذت الأنظار ترقب ما سيتمخض عنه هذا التعديل. وما أن أقر البرلمان هذا التعديل في العاشر من مايو الجاري، حتى توالت ردود الفعل النقدية تأسيساً على صعوبة الشروط التي وُضعت للترشح في الانتخابات الرئاسية، وتجاوزها ما هو ضروري لتنظيم عملية انتخاب من يشغل هذا المنصب الرفيع ووضع ضوابط موضوعية لها. فمن الصعب على أي شخص من خارج الحزب الوطني الحاكم أن يلبي هذه الشروط التي تلزمه بالحصول على تأييد لترشيحه من مائتين وخمسين عضواً في المجالس المنتخبة (مجلسا البرلمان والمجالس الشعبية المحلية). وإذا كان المشرع قد استثنى الأحزاب السياسية من هذه الشروط في الانتخابات القادمة فقط، فقد رأى كثيرون أن هذا لا يكفي لإجراء انتخابات تنافسية حقيقية. فهذه الأحزاب لا تضم إلا عدداً محدوداً للغاية من المصريين. وهذا كله معروف لمن يعنيهم الأمر في العالم، مثلما هو معروف في داخل مصر. وفضلاً عن المعارضة التي قوبل بها التعديل الدستوري في داخل مصر، فثمة ما يدل على أن هذا التعديل سيؤدي إلى تصاعد الضغط الأجنبي على الحكومة المصرية. فبعد أن كانت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس قد تحدثت بشكل عابر في مارس الماضي عن ضرورة إجراء انتخابات رئاسية تنافسية في مصر، عاد الرئيس بوش إلى إثارة هذا الموضوع في خطابه الذي ألقاه في السابع من مايو الجاري خلال زيارته إلى لاتفيا. فقد تحدث عن "ضرورة إجراء انتخابات رئاسية حقيقية تتفق مع القواعد المستقرة في هذا المجال وفي ظل وجود مراقبين دوليين" يراقبون هذه الانتخابات. وبدا حديثه هذا أكثر صرامة، وربما خشونة، مقارنة بما ورد عن مصر في كلمات سابقة تحدث فيها عن أهمية التطور الديمقراطي فيها، وكرر في ثلاث منها دعوته لأن تقود مصر المنطقة في اتجاه الديمقراطية مثلما قادتها في طريق السلام. صحيح أن اهتمام السياسة الأميركية بمسألة الديمقراطية وحقوق الإنسان في مصر، وغيرها، ليس بريئاً. وصحيح أيضاً أن هذه السياسة لا تساعد عملياً في توفير الأجواء اللازمة لتحولات ديمقراطية سريعة في منطقة هي الأكثر توتراً واحتقاناً في عالم اليوم. بل على العكس يؤدي انحيازها المتزايد لإسرائيل إلى تدعيم النزوع إلى الإحباط والانتقام والعنف والانتحار، وبالتالي انتشار ثقافة لا ديمقراطية في المجتمعات العربية بدرجات متفاوتة بطبيعة الحال. غير أن هذا كله لا يبرر تباطؤ الإصلاح الديمقراطي في البلاد التي تشتد فيها الحاجة إلى هذا الإصلاح لتجاوز ركود سياسي واجتماعي يحرمها من دماء جديدة ضرورية لإنعاش مؤسساتها ويضعف قدرة اقتصاداتها على النمو والتقدم. ومصر من هذه البلاد التي يمثل الإصلاح مصلحة حقيقية لها، وليس لغيرها. كما أن إصلاحاً جدياً فيها يقوي مناعتها أمام تدخل الغير في شؤونها لأنه ينزع منهم ذريعة هذا التدخل. ولكن الإيقاع البطيء لعملية الإصلاح على طريقة "خطوة للأمام وأخرى للوراء" يوفر ذرائع، وليس ذريعة واحدة، للتدخل. وينطبق ذلك على طريقة تنظيم انتخابات الرئاسة والتي تم إقرارها قبل أيام، كما على الأسلوب الذي أجري به الحوار الوطني بين الحزب الحاكم والأحزاب الأخرى، وعلى التعديلات التي يتجه البرلمان إلى إدخالها في الأيام القادمة على القوانين المنظمة للعملية السياسية. فالتعديل الدستوري الذي ينظم عملية الانتخابات الرئاسية يضع مصر في مرتبة متأخرة بين الدول التي تأخذ بنظام انتخاب رئيس الجمهورية من الشعب مباشرة، لأن هناك نظاماً آخر يجعل البرلمان هو الهيئة الناخبة للرئيس كما هو الحال في لبنان مثلاً على الصعيد العربي وفي ألمانيا. ويمكن تصنيف الدول التي تأخذ بنظام انتخاب رئيسها من الشعب مباشرة في ثلاث فئات: أكثرها ديمقراطية, هي الدول التي لا تشترط في المرشح لمنصب الرئاسة إلا الشروط الشخصية المتعارف عليها في جميع الدول وأهمها الجنسية والسن ولا تلزمه بالحصول على تأييد من أحد كشرط مسبق. والفئة الثانية التي تأتي في موقع وسط تُلزم المرشح بالحصول على تأييد عدد معين من الناخبين، أو تخيره بين تأمين هذا العدد أو الحصول على تأييد عدد معين من أعضاء المجالس المنتخبة. أما الفئة الثالثة, فهي تشمل الدول التي تلزم المرشح بأن يكون مؤيداً من عدد معين غالباً ما يكون كبيراً من أعضاء المجالس المنتخبة. والمعيار الأساسي في تفضيل إلزام المرشح بالحصول على تأييد عدد من الناخبين، وليس المنتخبين، ذو شقين: أولهما أنه يخلق حالة من التفاعل المباشر بين المرشحين والجمهور تضفي حيوية على الساحة السياسية برمتها، وليس فقط العملية الانتخابية. وثانيهما أنه يعطي فرصة متساوية لكل مرشح سواء انتمى إلى حزب ممثل في المجالس المنتخبة، أو حزب لا تمثيل له فيها، أو لا انتماء حزبياً له. وفي عالمنا العربي تجربة حديثة ناجحة رغم الظروف الصعبة والمعقدة التي تحيطها. ففي انتخابات رئيس السلطة الفلسطينية، لا يُطلب من المرشح سوى الحصول على خمسة آلاف توقيع من الناخبين. وقليلة هي الدول التي لا تشترط تشريعاتها حصول المرشح على أي تأييد تمثيلي سواء كان من الناخبين أو من أعضاء المجالس المنتخبة. ولكن مما له مغزى أن معظمها دول حديثة العهد بالديمقراطية في شرق أوروبا، وكذلك في آسيا مثل الفلبين وفي أميركا اللاتينية مثل المكسيك. وفي نيجيريا شرط بسيط يسهل الوفاء به، وهو أن يحصل المرشح على دعم من أحد الأحزاب السياسية. ولكن في الفلبين لا يشترط في المرشح سوى أن يكون مواطناً بالمولد (أي ليس متجنساً) وألا يقل عمره عن أربعين عاماً. وفي المكسيك يضاف إلى شرط التمتع بالجنسية بصفة أصلية أن يكون مقيماً في البلاد لمدة عشرين عاماً على الأقل، أي لم يمض معظم حياته في الخارج. والمهم، هنا، هو أن مصر تستحق وتستطيع في آن معاً، أن تأتي في الفئة الأولى، فإن لم يكن ففي الفئة الثانية التي تضم دولاً تلزم الراغبين في الترشيح لمنصب الرئاسة بالحصول على تأييد عدد معين من الناخبين. ولذلك ربما يؤدي التعديل الدستوري الذي يجعل مصر في المرتبة الثالثة دولياً على صعيد طريقة تنظيم الانتخابات الرئاسية إلى وضعها تحت ضغط دولي، وخصوصاً أميركي، مباشر في الشهور القادمة، فضلاً عن آثاره الانقسامية داخلياً.