أعلم أن التقسيم أساسًا غير صحيح, فكم من ثائر من الإخوان كان فى الميدان, وقد استشهد منهم (43 أخًا) وأصيب منهم (المئات) ومنهم من فقد عينيه وغير ذلك, ومنهم من نعرف, ومنهم من لا نعرف ( لكن الله يعرفهم), والشيخ الذى وقف على كوبرى قصر النيل فى يناير 2012 يدعو على الإخوان كان عملاً بلا ثمن ولا كُلفة, بينما من وقفوا مكانه فى يناير 2011 فقد صدوا بصفوف صلاتهم وجباههم الساجدة جحافل ومدرعات فكانت لهم الشهادة والإصابات. ثم يبدو أن التقسيم يحمل فى طياته نوعًا من التمايز, كأن الإخوان شىء، والثوار شىء آخر, والعسكر شىء ثالث, دون النظر أن الثلاثة مصريون ومن قلب هذا الوطن وعاشوا على ترابه.. وحينما نتحدث عن الثلاثة ندرك أننا لا نتحدث عن ملائكة, ومن ثم فمن يهتفون ضد العسكر ليسوا بملائكة أيضا, وكذلك الإخوان والعسكر, ولذلك, لعلنا نلقى بعض الأضواء على هذا المشهد بثلاثيته الصاخبة: أولا العسكر: 1/ مَن يدعى أن العسكر شياطين فلا أظن ذلك صحيحًا, لقد استجاب العسكر لنصيحة بعض السياسيين فورطوهم وطالبوهم بإطالة فترة بقائهم فى الحكم (سعد الدين إبراهيم والبرادعى وأسامة الغزالى حرب) – والغريب أن ابن الأخير (شادى) يسب العسكر ليل نهار بزعم أنهم أطالوا مدة بقائهم فى الحكم!!). 2/ انحاز العسكر للثورة حينما تعالت الحناجر مدوية فى الميدان (واحد اثنين .. الجيش المصرى فين؟) وحينما استجاب العسكر هتف الميدان (الجيش والشعب إيد واحدة). 3/ أدار العسكر أهم وأنزه وأشرف انتخابات شهدتها مصر فى تاريخها وشهد لها العالم بالعدالة والنزاهة. 4/ كل الانتقادات الموجهة لمبارك تمسهم باعتبارهم كانوا أحد أهم مكونات نظام مبارك. 5/ استطاع مبارك بخبث ودهاء أن يُحيّد العسكر، وأن ينقل طموح بعضهم من التطلع إلى السلطة إلى التطلع إلى الثروة, ولذلك نراهم صادقين فى نقل السلطة للمدنيين, ولولا تغرير بعض السياسيين بهم لانتقلت السلطة إلى المدنيين منذ شهور. 6/ أدار العسكر المرحلة الانتقالية بطريقة لم ترق للبعض فكان نصيبهم هذا الهجوم, وأحسب أن أكبر خطأ وقع فيه العسكر أنهم وضعوا خارطة طريق وسمحوا لبعض السياسيين أن يتلاعب بهم ويغريهم للانحراف عنها (وثيقة الجمل ثم وثيقة السلمى, ثم نصائح الاستشارى, وهكذا), وكله باطل .. فقد جاء استفتاء الشعب فى مارس 2011 ليضع خارطة طريق محددة, انتخابات مجلس شعب وشورى, ثم انتخابات الرئاسة, ثم انتخاب هيئة تأسيسية من مجلسى الشعب والشورى لوضع الدستور, وقد جاءت التعديلات الدستورية تتضمن شروط انتخاب الرئيس وصلاحياته ومدة رئاسته, فهل كان إدراجها فى التعديلات ضربًا من العبث إن كانت انتخابات الرئاسة تلى وضع الدستور؟ 7/ جاءت تصريحات العسكر عن الثورة والثوار إيجابية, لكن بدت الأحداث تكشف خلال المرحلة الانتقالية أن قناعة العسكر أنهم يديرون (أزمة) ولا يديرون (ثورة)!.. فكان التخبط تارة والعنف تارة أخرى.. ثانيًا الثوار: 1/ غضبت بعض القوى السياسية وائتلافات شباب الثورة حينما وجدوا أنه من العسير تكوين أحزاب, ومن العسير أيضًا خوض الانتخابات, فقد يستطيع بعضهم الثورة, لكنهم قد لا يستطيعون السير فى دروب السياسة ومسالكها, ثم بدت نتائج انتخابات مجلس الشعب ومن قبلها النقابات تأتى بغيرهم, فاعتصر الحقد قلوب بعضهم, فقد كانوا فى صدارة المشهد الثورى, والآن قد تنزوى الأضواء عنهم فى سياق المشهد السياسى, فكان اتهامهم للشعب بعدم النضج تارة, وكان شغبهم وغضبهم على الإخوان والعسكر معا تارة أخرى.. على الإخوان لأن الخاسر لا يحب الفائز (فى الرياضة والسياسة والتجارة) أما غضبهم على العسكر لأن العسكر لم يقوموا بإقصاء الإخوان من المشهد السياسى, ولو قام العسكر بذلك (إقصاء مبارك ثم الإخوان) لاعتبروا أن الثورة قد حققت أكثر من أهدافها, أما الآن فالثورة (من وجهة نظرهم) لم تحقق شيئًا!! 2/ الغضب لدى قطاع من المصريين مما يرونه فى المحاكمات من تمييز لمبارك (كالطائرة والمستشفى) ودلال جمال وعلاء وضحكات العادلى ثم أحداث ماسبيرو ومحمد محمود ومجلس الوزراء والمحاكمات العسكرية وسلوك النيابة العامة والقضاء فى محاكمات رموز العهد البائد وعدم عودة الأموال المنهوبة وتقاعس الشرطة المريب عن أداء دورها فى حفظ أمن المجتمع, هو غضب مشروع وضروى ولازم, وخاصة مع اعتبار أن العسكر (كما قلنا) جزء من النظام السابق لم ينفك عنه. ثالثًا الإخوان: 1/ عدم وجود قدر واضح من التعاطف مع الأحداث الدامية سبب فراقًا بين رفقاء الأمس بالميدان. 2/ غاب التوفيق (تمامًا) عن منصة الإخوان فى ذكرى 25 يناير ( المُقدم – اللافتة – الغناء – طريقة إذاعة القرآن), ثم شعور الإخوان بأنهم أتوا لحماية مصر بعث شعورًا بالتخوين للآخرين, والحقيقة أن حماية الإخوان لم تكن حماية لمصر ولا حتى للميدان, فقد اقتصرت الجهود على حماية المنصة ! 3/ قرار حماية الإخوان لمجلس الشعب, لم يكن قرارًا مناسبًا ( فهذا دور الجيش والشرطة), وإذا كان هذا الأمر قد تم طلبه أو نصح به أحد من خارج الإخوان فقد غرر بهم, لأن ما حدث قد ساهم فى توسيع الهوة بين رفاق الأمس, وأحسبه فى سياق سياسة (فرق تسد), لأن أكثر ما أزعج كارهى الثورة هو حالة التوحد التى كانت فى الميدان, ولم يكن لكارهى الثورة من هدف أكبر من شق صف حالة التوحد المصرى. وأخيرا : هل يمكن للثوار وللسياسيين الذين من وراءهم أن يبرهنوا لأنفسهم ثم لشعب مصر وللعالم بأنهم ديمقراطيين بحق, وأن يتيقنوا أنه ما من مسار ثورى إلا ويعقبه مسار سياسى لأن الشعوب لا تظل للأبد ثائرة, وقد ثار المصريون بسبب غباء نظام مبارك حينما سد كل النوافذ, فلا أحزاب ولا سياسة ولا انتخابات ولا قوانين ولا تداول سلطة ولا أى شىء, والآن فُتحت النوافذ, فلماذا يصر بعضنا على إغلاقها؟ وهل يمكن للعسكر أن يسارعوا بنقل السلطة للمدنيين ولا ينصتون لأى أحد ينصحهم بتجاوز خارطة التاريخ الموضوعة سلفًا؟ وهل يمكن للإخوان أن تظل أياديهم ممدودة بأكثر مما هى (فهى ممدودة فعلا) فى المسار السياسى, مع دعمهم أيضا للمسار الثورى حتى تتحقق الأهداف؟ وهل يمكن للإخوان عمل مبادرة صلح مع كل من تخاصم معهم أو من خاصموه فى الشهور الماضية وأولهم شبابهم؟ أحسب أن ذلك ممكن لما للإخوان من رصيد دينى أخلاقى إيمانى كبير, ولما لهم من سعة فى الصدر ورحابة فى العقل. مصطفى كمشيش [email protected]