الحوار الذي أذيع أمس مع الرئيس عبد الفتاح السيسي كان جزءا من سلسلة البيانات والتصريحات والخطابات السابقة ، كلام كثير في باب العواطف والمشاعر الوطنية الفياضة والتعبئة المعنوية ونسج خيوط الأحلام بمستقبل واعد يختلف عن الواقع البائس الذي يعيشه الشعب ، وفي الحوار كثير مما يستحق الوقوف عنده للتعليق وحتى النقد ، وكنت أتمنى أن تفسح الفضائيات مساحات كافية لمعارضي الرئيس ومؤيديه للحوار الجاد حول ما ورد ، لأن النقد ينير الطريق للقائد وكشف الأخطاء والمخاطر وهذا أهم كثيرا من كلام الغزل والنفاق المجاني ، ولكن مع الأسف ، لم تجرؤ قناة واحدة على عقد حلقة نقاش حول الحوار ، وقد وقفت منبهرا أمام مسألتين مما تحدث عنهما السيسي في حواره ، أعتقد أنهما الأهم والأعظم في دلالتهما على طريقة تفكير رئيس الجمهورية وتقديره للأمور ، الأولى هي في حديثه عن الفساد وملاحقة الفساد ، وقوله أن الأجهزة الرقابية لا بد من إطلاق يدها في ملاحقة الفساد بدون سقف ، وهذا كلام مذهل في غرابته ، لأنه يقال في نفس الأسبوع الذي تمت فيه إحالة رئيس أهم وأخطر جهاز رقابي في الدولة ، المستشار هشام جنينه ، إلى المحاكمة العاجلة ، لأنه تحدث إلى الشعب عن أرقام ضخمة للفساد ، رفضت أجهزة بالدولة الاعتراف بها ، رغم الوثائق والمستندات التي عكف عليها عشرات الباحثين بالجهاز المركزي للمحاسبات ، في نفس الأسبوع الذي تقطع فيه رأس رئيس الجهاز الرقابي الأهم والرمز الأكبر في مكافحة الفساد على مدار السنوات الثلاث الماضية ، وتخضعه للتحقيق المضني والمهين ساعات طويلة وأياما عدة ثم تحيله محبوسا للمحاكمة بعد رفضه دفع الكفالة المهينة وتحول ابنته إلى المستشفى مصابة بأزمة قلبية حزنا على أبيها المحبوس ، ثم تتحدث عن أهمية إطلاق يد الأجهزة الرقابية في ملاحقة الفساد ، وهل هناك عاقل يمكن أن يلاحق "فساد الكبار" بعد أن رأي هوان هشام جنينه وتجريسه وترويع أهله وتهديده بالسجن وتدمير حياته بوحشية ، هل هذا الكلام يمكن أن يقنع أحدا . كان قد بقي على المدة القانونية لهشام جنينه على رأس الجهاز حوالي ستة أشهر فقط ، ويترك مكانه بشكل هادئ ويختار رئيس الجمهورية خلفا له بسهولة ، ولكن السيسي قرر استباق الأمر ، ولم يتحمل بقاء الرجل ستة أشهر فقط ، فأصدر قرارا جمهوريا عاجلا بإقالة جنينه من منصبه ، وكان مثيرا للدهشة أن القرار الجمهوري يستند في نصه المنشور إلى تحقيقات نيابة أمن الدولة في ما أعلنه هشام جنينه من أرقام ، ثم نكتشف أن تحقيقات نيابة أمن الدولة لم تكتمل أساسا إلى الأسبوع الماضي ، بعد عدة جلسات تحقيق مع جنينه ، ولم يصدر قرار النيابة أو رأيها النهائي في الموضوع إلا قبل أيام قليلة ، فهل هناك عاقل يمكن أن يفسر لنا صدور القرار الجمهوري قبل ثلاثة أشهر مستندا إلى تحقيقات نيابة أمن الدولة رغم أن تحقيقات النيابة تمت هذا الأسبوع ، هل القرارات تصدر بضرب الودع وتوقع المستقبل ومعرفة "نوايا" نيابة أمن الدولة ، وهل يليق بالقرارات الجمهورية أن يصل "السلق" فيها إلى هذا المستوى. المسألة الأخرى التي تحدث عنها السيسي في حواره تتعلق بالتفريعة الجديدة التي أضيفت لقناة السويس ، أو ما يسمى بالقناة الجديدة ، والتي أهدر فيها عشرات المليارات من الجنيهات ، ثم ثبت بوجه القطع أنها عديمة الجدوى الاقتصادية ، في العشرية الحالية على الأقل ، بل إن دخل قناة السويس تراجع بعدها وليس فقط توقف أو لم يتحسن ، وبعد عناد وتجاهل طويل ، اعترف الرئيس في حواره ضمنيا بضعف الجدوى الاقتصادية وأشار إلى أن الهدف من "القناة الجديدة" كان منصبا على "رفع معنويات الشعب" ، وبطبيعة الحال ، يفهم من ذلك أن رفع معنويات الشعب تم عن طريق تسويق "وهم" إنجاز منسوب للرئيس يدعم موقفه السياسي ويحشد له تأييد قطاعات من الشعب ، فهل هذا يليق بالقيادة المصرية ، وهل هذا يناسب دولة تعاني انهيارا ماليا و"تشحت" من طوب الأرض ، وكل احتياجاتها التصنيعية والتسليحية والزراعية وغيرها يتم الحصول عليها بالسلف والدين لتدهور الاقتصاد المحلي ، نهدر عشرات المليارات من الجنيهات لتسويق إنجاز "وهمي" ندعم به القيادة التي تعاني من حملات التشكيك والغضب . والحقيقة أن ما قاله السيسي عن الهدف الأهم من تفريعة قناة السويس وإهدار عشرات المليارات عليها ، وهو الهدف "المعنوي" تشعر أنه اختيار دائم في معظم المشروعات الجديدة ، التي يحرص على وصفها "بغير المسبوقة" لتعظيم شأنها ، ومصيبة هذا التوجه أنه يغيب عنه منطق الأولويات لتنمية المجتمع والدولة وتطويرها بشكل علمي وصحيح ، ولا يعمل وفق منظومة تنموية شاملة ، لأن الهدف منه تعبوي ودعائي بالمقام الأول ، وهذا ما ينتهي بمقدرات الوطن إلى الهدر في النهاية ، إما لعدم اكتمال المشروعات الجديدة التي لم تدرس جيدا أو لم توضع لها خطط صبورة ومستدامة بشكل علمي وجاد ، أو لعدم جدواها اقتصاديا أو تنمويا ، وإما لكون أعبائها المالية أكبر بكثير من طاقة البلد ومن احتياجها أيضا ، ويكفي أن حجم المديونيات للمشروعات الجديدة خلال العامين الأخيرين ، من قناة السويس للمشروع النووي لغير ذلك من أمور لا داعي لذكرها ، تصل إلى حوالي خمسين مليار دولار ، وهو يعادل ثلاثة أضعاف الاحتياطي النقدي للدولة بكاملها من العملات الأجنبية .