فى سلسلة مقالاته تحت عنوان «الأوهام والحقائق فى علاقاتنا المأزومة بالغرب»، التى ناقش فيها الدكتور سليمان عبدالمنعم العلاقة بين الغرب والشرق، انتهى فى مقالته الأخيرة «المصرى اليوم 17/6/2010» إلى مناقشة القلق الغربى من النهوض الاقتصادى الآسيوى، وأنه شأن أى صعود لقوة ما فإن النهوض الاقتصادى سوف يكون له نموذجه الثقافى، الذى يروج له وذراعه العسكرية التى تدافع عنه، وركز على دور القيم الثقافية الآسيوية فى عملية الصعود، مثل النظام والانضباط والعمل والترابط الأسرى والجماعية والتواضع، وذلك فى مواجهة التفسخ الاجتماعى الغربى وقيمه المتمثلة فى الفردية والانغماس فى المادية. غير أنه فى المقابلة بين القيم الثقافية الآسيوية والقيم الغربية، فإن دبلوماسياً وباحثاً آسيوياً هو كيشور محبوبانى Kishor Mahbobanie، له رأى آخر.. ففى إطار نقده لنظرية صدام الحضارات بوجه عام والحضارتين الغربية والآسيوية بوجه خاص «راجع مقاله فى الForeign Affairs يناير فبراير 1995»، فإنه يبنى رفضه لفكرة صدام الحضارات على أساس تجربة تجرى فى الواقع، وتشير لا إلى تصادم الحضارات وتعاونها أو تلاقيها وإنما إلى تجانسها «Fusion» وامتزاجها، وتتمثل هذه التجربة فيما يجرى فى منطقة شرق آسيا ووصولها إلى المسرح العالمى كقوة رئيسية، وهو التطور الذى يعتبره المفكر السنغافورى أنه سيكون من أهم ما يميز القرن الواحد والعشرين، الأمر الذى يجد المفكرون الغربيون صعوبة فى فهمه نتيجة لعدم تصورهم - أو ارتياحهم - لبزوغ قوة غير أوروبية، ومن ثم فإن رد فعلهم الطبيعى يتجه إلى افتراضين: الأول هو أن مجتمعات هذه المنطقة سوف تتبنى بشكل مطلق النموذج الغربى فى الاقتصاد والسياسة، وستكون صورة مكررة من هذا النموذج، وهو ما تصوره فوكاياما، فى نظريته حول نهاية التاريخ، أما الافتراض الآخر فهو الذى توقع صداماً بين الحضارتين الغربية والآسيوية كما فعل صامويل هنتجتون.. ويذهب المثقف الآسيوى إلى أن وراء عدم دقة تفسير ما يحدث فى شرق آسيا عدم إدراك أصحاب هذه النظريات أن هذه المنطقة تشهد ظاهرة تاريخية غير مسبوقة ألا وهى امتزاج أو تجانس الثقافات الآسيوية والغربية فى منطقة شرق آسيا، باسيفيك، ومثل هذا التجانس هو الذى يفسر انفجار النمو فى الباسيفيك، وتقدم إمكانيات السلام والازدهار المستمر فى المنطقة، ويعرض محبوبانى مظاهر هذا التجانس فيما يشعر به من يعيشون ويتنقلون فى منطقة آسيا باسيفيك، من أنهم يتحركون نحو عصر جديد من الازدهار الاقتصادى، وأنهم يطيرون من هونج كونج إلى فانكوفر، ومن سيول إلى لوس أنجلوس، ومن طوكيو إلى هايتى أو من كوالالمبور إلى سيدنى، ومع هذا لا يشعرون بأنهم عبروا حواجز ثقافية تفرق بينهم، فهم يشعرون أنهم فى بيتهم فى معظم أركان الباسيفيك، وأن ثمة إحساساً يبزغ بالجماعة التى تربطها مصالح مشتركة ونظام مشترك فى الحياة، غير أن ثمة طريقاً طويلاً يجب أن يقطع حتى يمكن لمثل هذا الإحساس بالجماعة أن يتحقق بشكل كامل، ذلك أن شيئاً على مثاله لم يحدث من قبل، وحيث ستكون مجموعة الباسيفيك خلقاً جديداً تماماً، فهى لن تكون مجموعة آسيوية، كما لن تكون مجموعة أمريكية.. وفى منطق محبوبانى أنه إذا كانت منطقة الباسيفيك قد بزغت كأكثر المناطق ديناميكية فى العالم فذلك لأنها قد جذبت أفضل الممارسات والقيم من العديد من الحضارات الغنية الآسيوية والغربية، فإذا ما استمر هذا الامتزاج فسوف تشهد انفجاراً خلاقاً، لم نشهده من قبل، بل إن بعض هذه الانفجارات الخلاقة قد تحققت بالفعل، متمثلة فى النموذج اليابانى، فثقافياً، قد بقيت اليابان يابانية فى جوهرها، ولكن فى إدارتها المدنية وتجارتها وعلمها وتكنولوجيتها، أصبحت من الأفضل، بعد أن مرت بعملية التحديث وانفصلت عن ميراثها الإقطاعى، ولكن اليابانيين ظلوا يابانيين، منازلهم يابانية وأرواحهم يابانية، رغم أن الكثير من الشبان اليابانيين يشبهون أقرانهم الأوروبيين والأمريكيين، إلا أن نظامهم القيمى، رغم تغييره، ظل يابانياً فى جوهره. وفى كتاب حديث له «The New Asian Hemisphere The Irresistible Shift Of Power to the East» اعتبر محبوبانى أن المجتمعات الآسيوية لا تنجح الآن لأنها أعادت اكتشاف بعض الجوانب الخفية للحضارات الآسيوية، ولكنها تنجح لأنها اكتشفت أخيراً أعمدة الحكمة الغربية التى قام عليها التقدم الغربى، ومكنت الغرب من أن يتعدى أداء المجتمعات الآسيوية خلال المائتى عام الماضية، ويحدد محبوبانى هذه الأعمدة فى: الأخذ بنموذج السوق الحرة واقتصاديات السوق، والعلم والتكنولوجيا، والجدارة Meritocracy والبرجماتية وحكم القانون والتعليم. على أى حال، وأياً كانت التحفظات التى يثيرها مدى ما ذهب إليه المفكر السنغافورى من «تجانس» بين الثقافات الآسيوية والأمريكية، فإن خطه الفكرى الأساسى يبدو إيجابياً وصحياً، من حيث افتراض اتجاه الثقافات والحضارات المتمايزة إلى التلاقى والتعاون والعمل معاً نحو الخير المشترك بدلاً من الصدام.