تتعرض مصر إلى سلسلة من الأزمات الاستراتيجية، وهى فى الأصل ليست من ذات هوية وطبيعة الأزمات التى تتعرض لها السياسة الخارجية، حيث إن الأزمة الاستراتيجية تدل على مجموعة من الأحداث تكشف عن نفسها محدثة بذلك إخلالاً فى توازن القوى القائمة فى ظل النظام أو أى من نظمه الفرعية، بصورة أساسية وبدرجة تفوق الدرجات الاعتيادية مع زيادة احتمال تصعيد الموقف إلى درجة العنف داخله. هذا مختلف بشكل جذرى عن مفهوم الأزمة منظورا إليه من منظور السياسات سواء أكانت سياسات خارجية أو أمنية أو اجتماعية أو غيرها. فالأزمة وفق منطق السياسات كما نعرفها تنطوى على عناصر معينة تكون مدركة من قبل صناع القرار هى: 1- أعمال متوقعة من قبل الخصم، 2-إدراك أو تصور وجود تهديد، 3- إدراك الموقف المحدد لصنع القرار والرد عليه، 4- إدراك العواقب المهلكة لعدم الرد. بعبارة أخرى، الأزمة الاستراتيجية مرتبطة باتزان الكينونة الاجتماعية العامة، بينما أزمة السياسات مرتبطة بمستوى أداء المخرجات العامة. فالأولى وهى التى نبحث فيها مرتبطة بشكل وثيق بالاختلالات الداخلية المتصلة بالتفاعل المركب للعلاقات والهياكل المجسدة للأفكار والزمان والمكان والإنسان والأشياء والمنظمات، أما الثانية التى لا نبحث فيها، حيث تعاملنا بشأنها مرات عدة فهى متصلة بالمواقف المعينة ودرجة توافر عنصر المفاجأة بها، وبالتالى مدى الاستعداد لتقبل المفاجأة والتغلب والسيطرة على آثارها. فإذا كان الحزب الوطنى والدولة والحكومة التى تمثلها يريدون أن يستمروا فى موقع القيادة والسيطرة لأعوام طويلة مقبلة، فلابد لهم من فهم فنيات التعامل مع الأزمات الاستراتيجية، وألا يخلطوا بقصد أو بغير قصد بينها وبين فنيات التعامل مع أزمات السياسات سواء كانت خارجية أو داخلية. فى هذا السياق. يمكن القول إن الأزمة الاستراتيجية تتطلب تصوراً مختلفاً لمفهوم التنبؤ عن أزمة السياسات سواء داخلية أو خارجية. منظور السياسات يعرف المستقبل بثلاث حالات يرى أنها حالات طبيعية، وهى: 1- حالة التأكد، أى أن نكون على علم بكل ما سوف يحدث فى المستقبل القريب، 2- حالة عدم التأكد، أى أن نكون فى حالة من الجهل التام عما سيحدث فى المستقبل القريب، 3- حالة المخاطرة أى أن تكون لدينا معلومات غير مؤكدة عن المستقبل القريب. ونحن فى السياسات العامة عندما نخطط يقتصر عملنا على المخاطرة، أى عندما لا نكون فى حالة من التأكد التام أو عدم التأكد التام. أما التنبؤ فى سياق الأزمة الاستراتيجية فهو تنبؤ الحاضر الممتد. فى هذه الحالة ليس هناك مستقبل له وضعية المفارق للحاضر والممهد للمستقبل فتؤمل نتائجه، ويتم التوجس من احتمالات تطوره، بل هذه الحالة التى يدمج فيها الحاضر بالمستقبل فى عملية مستمرة من الحضور. والحاضر المستمر تظهر: أولا، عندما تنخفض درجة مؤسسية القيم المعبرة عن السلوك والفعل وتزداد، ثانيا، عندما يعتقد أن المعلومات لا تعبر إلا عن ظل الواقع المعين والمتكرر بأشكال مختلفة، هنا تكون المعلومات ليست آلية للتحقق، بل آلية للتأكيد، فالأزمة الاستراتيجية تخلق حالتها الأيديولوجية من خلال الوهم بإحداث التغيير، بينما هو ليس تغييراً حقيقياً حيث ليست هناك مؤشرات مختلفة من حيث الهوية لاحتمالات بزوغ واقع مفارق جديد، ثالثا، عندما يتم حصر التغيير فى غلبة منطق السياسات من غير فهم أن منطق السياسات من غير وجود إطار لمنطق استراتيجى واضح لمراحل التقدم وقياسه لا يعنى إلا الدوران فى حلقة مفرغة، فى مجال العلاقات الدولية دعنى أضرب أمثلة توضيحية: الأزمة الاستراتيجية تأخذ مفهوم ووضعية أزمة الدور الإقليمى، بينما السياسات تظهر فى الأزمات الدبلوماسية بالمعنى الفنى والتفاوضى، الاستراتيجية تدل على أزمة تكوين المورد الإقليمى المشترك، بينما السياسات تنم عن أزمة فى التفضيلات عند التوزيع للمورد المشترك، الاستراتيجية متصلة بأزمة تكوين الاتجاه الصراعى أو التعاونى، بينما السياسات تشير إلى «الجداول الزمنية»، وهى تحدد وقت البداية والنهاية بالنسبة لكل حل يتم اختياره، أى متى نبدأ ومتى ننتهى، أو البيانات على فترات زمنية، فيما يعرف بالسلاسل الزمنية (Time series) أو على مناطق مع تثبيت الوقت فيما يعرف ب(Cross - sectional) والإسقاط على المستقبل Projection باستخدام بيانات الماضى (Back casting) لتحديد تقديرات كمية بالنسبة للمستقبل المرغوب على سبيل المثال. هذه السلسلة ستتعامل مع الفنيات المختلفة للأزمة الاستراتيجية مع وضعها فى إطار سياق التحديات الاستراتيجية المصرية، أخذا فى الاعتبار ثلاثة مقتضيات: أولا، المستهدف هو التفكير والرؤية على المستوى التكوينى للأمن القومى والمصالح المصرية. ثانيا، الأخذ فى الاعتبار عدم الانفصال بين العوامل المساهمة فى ثلاث بيئات مختلفة: أولاها البيئة الداخلية، وثانيتها، البيئة الخارجية، وثالثتها، البيئة العولمية -المحلية، ثالثا، أن التخطيط الاستراتيجى متصل فى المقام الأول بنوعية المعلومات المطلوبة فى تحليل الأزمة الاستراتيجية، وسنركز على خمسة أنماط من المعلومات: المعبرة عن خطر، الدالة على تحد، العاكسة لفرصة، الموضحة لقيد، وأخيرا الكاشفة لضعف تكوينى. من هنا نبدأ.