عندما وصلت إلى ميناء الإسكندرية، وجدت سيدى الجديد فى انتظارى. شرعت أتأمله، كان نحيفاً جداً وكأنه يعانى من سوء التغذية. يدخن السجائر بشراهة حتى كدت أختنق، وكان من هذا النوع من الرجال الذى يحلق شاربه من أعلى، فيما بعد عرفت أن هذا النمط من الرجال عمليون جداً، وبرغم عدم ارتياحى المسبق له، فقد عقدت العزم أن أحبه وأخلص له، كنت سيارة غريرة فى عبط طفولتى، كان عمرى ثلاث سنوات فقط، ولم أكن أملك من التجارب غير النزر اليسير بين أحضان سوزيت ومارسلان. كانت الشمس توشك على الغروب، وأنا أسير فى شوارع الإسكندرية، شرعت أرمق ما حولى بغرابة، لا أصدق أننى انتقلت إلى بلد آخر وقارة أخرى. لا أنكر أننى أحببت الإسكندرية منذ اللحظة الأولى، كانت رقيقة وجميلة وحزينة ومرهفة، وكان أهلها يهملونها ويسيئون معاملتها، مثلما سيحدث لى مستقبلاً، ولكننى لم أكن أعلم. رحت أسير بمحاذاة البحر وأصغى إلى تكسر الموج وأحاول أن أفهم لغته، وبرغم ما انتابنى من شجون الانتقال فقد كنت أعرف أننى سأحبها. تولوز، سوزيت، مارسلان: أشهد الله أنى أحبكم. ■ ■ ■ كان الليل قد أسدل ستاره تماما عندما توقفت السيارة تحت بناية متواضعة، أدركت أن سيدى الجديد فى بداية نجاحه العملى. فيما بعد تغيرت أحواله تماما بعد أن باعنى، شاهدته بعدها بأعوام يركب سيارة مرسيدس سوداء، وإن كان ما زال يحلق شاربه من أعلى، وما زال على نحافته، عرفته ولكنه لم يعرفنى. فى منتصف الليل نزل سيدى الجديد مرة أخرى. وجاءت معه سيدة هائلة الحجم، اسمها «الحاجة اعتماد». ويبدو أن خبر وصول السيارة الجديدة من فرنسا قد أثار انفعالها، لأنها أصرت على النزول ليلا وركوب السيارة، وأحضرت معها - على سبيل الاحتفال - حلة «محشى كرنب». استوى سيدى الجديد على مقعد القيادة، وفتح الباب المجاور، ورأيت شيئا له تضاريس الجبل يرتفع قبل أن يهبط بكل ثقله علىّ ويخنق أنفاسى. كدت أموت بالمعنى الحرفى للكلمة، وكان أسوأ ما فى الأمر أننى لم أفهم ما يحدث. لقد سبق أن ركبت سوزيت آلاف المرات، دون أن أشعر بشىء، إلا بما تحدثه قبلة رقيقة على خد طفل. فماذا حدث؟. كانت الحاجة «اعتماد» تبدى سرورها بالسيارة الجديدة، وأنا أبكى وأندب حظى. وفجأة اشتممت رائحة معينة عرفت أنها التفاعلات التى تحدث فى القولون عند أكل الكرنب. شرعت أسير وأنا ألطم على صدغى: «أين أنت يا سوزيت الجميلة؟ أين جسدك الرهيف الذى يسير على الزهور دون أن تنثنى؟ أين عطرك الفاغم الفرنسى؟». وحين لم تجب سوزيت أدركت أن أياما سوداء تنتظرنى. [email protected]