أصدقائى القراء، أقدم لكم نفسى: أنا سيارة خضراء اللون، من طراز قديم نوعا، بيجو 304. اليوم أحكى لكم قصة حياتى الطويلة، والخبرات العميقة التى مررت بها فى شوارع مصر المحروسة. بدايتى كانت فى فرنسا، ما زلت أذكر أيامى الحلوة فى مصنع الإنتاج، العنابر المضيئة المكيفة التى لا يتسلل إليها ضوء الشمس ولا غبار الطريق، روعة التشكل وبهجة البدايات، معجزة العقل البشرى حين يحول ألواح الحديد والفولاذ، وقطع البلاستيك والمطاط إلى مخلوق جميل يسير ويتحرك، ويطلق صوتاً ويضج بالحياة. ربيع 1974، عام ميلادى الأول، وأنا فى صالة العرض بلا ذرة غبار واحدة، جميلة، لامعة، برّاقة وعلى أحدث موضة، طرازى بيجو 304 ، أما لونى فيصعب وصفه، درجة نادرة جداً من درجات اللون الأخضر، فيما بعد عرفت أنها لون عينى «سوزيت» بالتمام، لكن دعنا لا نستبق الأحداث. لم أكن قد خرجت من المصنع بعد، ولا عرفت شيئاً عن العالم الغامض القابع خلف الباب الزجاجى للمعرض، ولا خطر على بالى - أنا الجديدة اللامعة - كم الخبرات الهائلة التى سأتعرض لها فيما بعد فى طرقات مصر، كنت غريرة ناعمة مقبلة على الحياة، ما زلت أذكر هذا المساء الباسم من ربيع 74 حينما جاءنى «مارسلان»، هذا الشاب الفرنسى الوسيم الذى يضج بالحيوية والحياة، استلطفته من أول وهلة، حيث ملامحه الوسيمة، عيناه الزرقاوان المندهشتان، شعره المصفف بعناية، والعطر المنعش الذى يفوح منه، وقوامه الطويل المعتدل وأناقة ثيابه، راحت أصابعه الطويلة تربّت على الباب الأمامى فى حنان، فيما بعد عرفت أنها نفس الأسباب التى جعلت «سوزيت» تقع فى غرامه. عاد «مارسلان» فى الصباح التالى، وتمت الإجراءات فى يسر وسهولة، كان سعيداً، وكنت لا أقل عنه بهجة وانفعالاً، وحينما نظر فى المرآة الخلفية شاهدت عينيه الزرقاوين تشعان بالفرحة والسعادة، راح يقودنى فى شوارع لا أعرفها، وقد أصابتنى عدوى البهجة، مع فرحتى البكر بمشاهدة الدنيا لأول مرة، ومن أين لسيارة عبيطة مثلى أن تعرف أنها فى مدينة فرنسية اسمها «تولوز»، رحت أرنو إلى الطرقات المغسولة بعناية، والأشجار المزهرة على جانبى الطريق، وزهور التوليب تعلن أن الحياة حلوة. وأخيراً توقفت السيارة أمام مدخل بيت من طابقين ملحق به حديقة صغيرة، شاهدته يخرج رأسه الوسيم من نافذتى، ويهتف بلغته الفرنسية ذات الرنين الموسيقى لشابة حسناء تنتظره فى الشرفة، كحمامة بيضاء صغيرة هبطت الدرج بسرعة، بمجرد أن شاهدتنى حتى صرخت من الفرحة، ثم ارتمت فى أحضان «مارسلان» لتشكره على اللفتة الرقيقة، وقتها فهمت السبب الذى دعاه لشرائى دون تردد: لونى هو بالضبط نفس درجة لون عينى سوزيت الخضراوين. (نكمل غداً إن شاء الله). [email protected]