أعرف أنكم لن تصدقوني. كل يصدق نفسه ولو بالوهم. أو حتي الكذب. لكني أصدق نفسي, لأن لها رائحة ذكية. أن تعيش داخلك حيث خارجك مجرد أحداث تقع, تجعل الصداع يقفز إلي الرؤوس كدواء لمرض لم يدرك. العالم يشغي من حولي. لا أسمع إلا طنينا خافتا. أنا صديق الموتي. إنهم لا يفزعون. هادئون, ولهم أصوات دافئة. أصوات الأحياء مزعجة. لهم أصوات صراصير وضعت أمام مكبر صوت عالي الحساسية, ونسي شخص ما أن يغلقه. دافئا كان صوت أمي. مازلت أذكره. له طعم الفجر, ورقة النبيذ في صيف حار. ماتت حين لم أستطع البكاء. ظل الصوت داخلي. الشفقة في عيون الناس علي طفل كانت تلطمني, فكان الصمت. حين يتكلم الناس أصمت. حين يصمتون اتكلم. كلامي للاأحد. لأن الفراغ صديقي. أنا للفراغ هبة إلهية. حين بلغت زوجوني, فأنجبت أبناء. لكنهم لم يكونوا سوي رعشة علي ظهر قلبي. أتأملهم يمرحون, فلا أراهم إلا قططا وأرانب تقفز. لهم ناعم الوبر في الحس, وزهر قرنفل علي الشفتين. أحيانا أراهم فراشات تحوم حولي, تحط علي رموشي مثل همسة, وتحلق. صار أبي مثل غبار. رأيته يوما يتفتت إلي ذرات دقيقة, أدق من غبار الدقيق, وتلاشي. وضعوني في وظيفة, تضع في يدي راتب أول كل شهر, أعطيه لزوجتي. صرت حارس الأموات في مشرحة. أصبحت صديق الموتي, ولهم أعطيت صوتي. حكايات الموتي تبهجني. كلها خيال وبلا أطماع. حتي من كان خبيثا علي قيد الحياة, يصير أرق من فرخ ضفدع يحاول قفزته الأولي. الموتي منحوني سخرية عذبة, فأصبحت أسخر من الحياة وأحلق في الحكايات. الأحياء يحبون سماع حكاياتي ويضحكون. لا أهتم, لكن يغضبني ضحكهم. أدرك أنهم فقراء بالحياة. لأنهم لا يرون ما أري. الموتي لهم حنين. ليس للعودة إلي الحياة, بل لتلك الأماني التي لم يبلغوها, أو لتلك الأشياء المفتقدة, لكنهم ينسون. أراهم يستمتعون بالصرخات تصل إليهم زغاريد, ويبتهجون. عالمهم ثري لأن قبض الريح أغني من ملء اليد. الصمت كامل, حتي أنه ينطق. تنجذب الحيوانات لي. كأن شعاعا يهديها إلي. أحدق في عيونها, وأري نسيجا من ضوء يتشكل ويتثني. تمرغ رأسها في حضني وتصدر أصواتا لها ألوان. كل لون بصوت. كل لون له جدائل. أتوقف قليلا. أتأمل نفسي من داخلي. يومي لحظة هي أنا. لحظة تبتديء بي وتنتهي إلي. أنا من خمر وثمر. زرعوني يوما فلم تطلع نبتتي أفقا. غلتي غاصت عميقا وتمددت. صارت تتنفس ملء الأرض. أنا الليل في عميق ظلمته شعاع لا يشق طريقا, لكنه يخفق قليلا, وينحني لشيء طيب. أنا لا أدركه, لكنه يتذبذب, ويدق رأسا وقلبا.. كيف ؟ لي وجه لا ادركه, ربما أستطيع أن اتحسسه. أخافه أحيانا دون رؤيته. قد أحن إليه وأحتضنه كطفل وليد. أنظر في المرآة أحسه قلبا يدفق. ليس دما. لهبا. أتحسس رأسي, فتنضح رائحة شمع وبخور. تري... كان جسدي صدي لي. حين أنظره أستشف غربتي منه. أحيانا أتنفسه, ويغطس شيء ثقيل عميقا.. لا أدري. يوما غني شاعر قصيدة. وجدتني علي وجه القصيدة التي لم يدرك الشاعر, رغم حرارة الغناء. يوما قال لي أحد أصدقائي الموتي( لا تحتمل وجهك. وجهك ضدك. خيانتك المعلنة, فلا تلعنه. هو ضمانتك لحياة تسري كالدخان, ونسبة ضئيلة من........) ولم يكمل. مات. لم أحلم أبدا. النوم ملء الجفون, والقلب وما وراء. هل يحلم من كان الحلم حياته إلا.......... أسموني( سرو). وكانوا ينادوني هكذا. أحيانا كنت أتساءل سر من ؟ سري. سر من أتي بي وراح غبارا. سر التي ذهبت حين كان جفني ثقيلا, ولم أستطع البكاء. أم سر غامض أحمله ولم أدرك. خطيئة ما. فرحة لم تعلن عن خوافي. صمتت. هفت. رفت. تجلت. خافت قليلا. رغبة فرح من نوع ما. غضب لم يكتمل. أو لوحة في الأفق ساعة الغروب ذابت. ينتابني نصف إله غائر في, وقلبه في الأفق معلق بي. بي خوف وحيد أخجل أن أعلنه. أهمس لخوفي( أن تسقط ورقة زهر دون رغبتها, تلك جريمة) في المشرحة جنتي. رغم العواء والصرخات زرعت كل أنواع الزهور. تنظرون إلي نصف ابتسامة وبعض سخرية. أنا حلم لم تعرفوه, ولن تدركوه. أنتم هناك أراكم. بعض خوف. قلق دائم. صمت لا يعرف مصيرا. لون يتحدر. ضجة تخاف الموت فتستدعي فاحش حياة. رغبة ناقصة. امتهان وجود. أنا الناقص في عيونكم أكتمل بظلالي. يجتاحني غني لم يبلغه أحد منكم, وأحتمل نفسي صمتا. أفراسكم بلا أجنحة. أنا فرسي وأجنحتي. قليل من التمهل يحملني علي همس الريح. وقفت علي سحابتي أمام سؤالي الذي لم أدركه. تراجعت قليلا. سألت السؤال. من السائل فينا ومن المسئول ؟. صمت أطل, ولم أدرك, ولم يفهم. لكن عصفورا يلهث في الريح نقر قلبي. فلم أعد أسأل, ولم يعد. **من كتاب القصة القصيرة صدرت له حكايات الغريب وفرد حمام عن دار الحضارة العربية وصدرت له أيضا فتنه اللحظات الاخيرة عن دار ميريت وسيصدر له قريبا عن دار الحضارة مجموعة قصص بعنوان كانت تعترف.