فى إطار متابعة مزايا وعيوب النظام التعليمى، خاصة فى المستوى الثانوى فى مصر، ومن منطلق رؤى بعض المهتمين بالعملية التعليمية والمتابعين لتطور نظم التعليم فى العالم، نكتشف أن المدخل الأول لإصلاح التعليم فى مصر ينبنى على خلق نظام إدارى يتسم باللامركزية، ولم تكن هذه الأفكار بعيدة عن أذهان رجال العلم والمثقفين فى مصر، إلا أن المشكلة الحقيقية تتأتى من أننا نرى العطب، ونشخص المرض ثم لا نتحرك لمعالجته، وكأننا نريد أن نتركه لكى يتفاقم. فقد ذكر الدكتور طه حسين فى كتابه «مستقبل الثقافة فى مصر» الصادر عام 1938 «أن نظام المركزية الإدارية فى وزارة المعارف (التربية والتعليم حاليا)، قد طال عهده واشتد ضغطه على الجيل القائم من النُّظار والمعلمين، ففقدوا أو كادوا يفقدون ذوق الحرية والابتكار». ويقول أيضاً: «إن كل إصلاح لشؤون التعليم على اختلاف فروعه وألوانه رهين بإصلاح لابد من تحقيقه قبل كل شىء وهو إصلاح ديوان الوزارة. وخلال وجود د. حسين كامل بهاء الدين، وزيراً للتربية والتعليم أعلن أنه كلف الأجهزة الرقابية بالدولة بمتابعة أداء وسلوك كبار المسؤولين بالديوان العام والمديريات التعليمية بعد أن ارتكبت بعض القيادات بديوان الوزارة مخالفات مالية وفنية جسيمة. وفى الوقت الذى تؤكد فيه قيادات وزارة التعليم أنها قطعت شوطا كبيرا نحو اللامركزية، وتدعيم المشاركة الجماعية، ومنح المديريات التعليمية سلطات أوسع، يأتى الواقع على عكس هذه التصريحات بدليل ما يحدث فى المجلس الأعلى للتعليم بكل محافظة، ذلك أنه من المفترض أن تكون هذه المجالس الأساس الأول لانطلاق اللامركزية وتفعيلها، ولكنها تحولت إلى خيال ظل لا حراك فيه، لأنها ظلت مجرد تابع أو امتداد لديوان الوزارة. والواقع أن الاتجاهات اللامركزية فى الإدارة التعليمية هى السمة الغالبة فى دول العالم المتقدم منه والنامى، فالقوانين الخاصة بالتعليم التى صدرت فى إنجلترا- على سبيل المثال-منذ عام 1980 وحتى 1988 كانت تركز على استقلالية الإدارة المدرسية، حيث أصبح فى إمكانية كل مدرسة العمل على حل مشكلاتها فى إطار قانون عام يحكم مجمل النظام التعليمى فى تلك البلاد. والواقع أنه لا يوجد سبب واحد لتقدم المجتمعات- على حد قول رجل الإدارة والمفكر طارق حجى- سوى الإدارة الفعالة المناسبة. ولذلك فإن إصلاح النظام التعليمى فى مصر من زاوية إصلاح الجوانب الإدارية الخاصة بمنظومة التعليم بشكل عام، ومنظومة التعليم الثانوى بشكل خاص يتطلب فى رأينا- الذى طرحناه فى برنامج كامل (كتاب) حول كيفية إصلاح التعليم الثانوى فى مصر- السير على خطى إصلاحية تتحدد بنودها فى: أولاً: يتم تقليص دور ديوان وزارة التعليم، وتقليل أعداد العاملين فيه، وإزالة حالة المركزية المفرطة والمعوقة لتطوير العملية التعليمية فى مصر، حيث يصبح دور هذه الوزارة وضع الاستراتيجية العامة لنظام التعليم، ثم يتم تقسيم البلاد على شكل قطاعات، كل قطاع يتبعه عدد من المديريات والإدارات والمدارس، ويصبح أشبه بوزارة قائمة بذاتها، عليها تنفيذ خطط الوزارة المركزية واستراتيجياتها. ثانياً: أن تقسم مصر إلى ثمانية قطاعات تعليمية، يدير كل قطاع منها شؤون العملية التعليمية للمناطق والإدارات، التى تقع فى إطاره، ونقصد بالعملية التعليمية هنا كل ما يتصل بها من مدارس أو مبانٍ وأثاث ومدرسين وموجهين وإداريين وتدريب ومناهج وطرق تدريس وإدارة مدرسية ومعامل ومكتبات، وأساليب للتقييم وطرق للامتحانات... إلخ، ويتولى كل قطاع تعليمى وضع الصورة النهائية للمناهج فى نطاقه فى إطار الخطة الأساسية التى تضعها الوزارة، وفى ضوء ظروف ومتطلبات المحيط الإقليمى والبيئى الخاص به. وعليه يجب أن تتجه القطاعات والإدارات التعليمية والمدارس التابعة لها فى مصر نحو نظام إدارى يتسم باللامركزية، واستقلال المؤسسات التعليمية والمدارس فى اتخاذ قراراتها، مع العمل فى إطار النظام الاستراتيجى العام الذى تضعه وزارة التعليم، ولتحقيق مستوى إدارى عالٍ ومستقل فى المدارس المصرية، فإننا نرى أنه يتم اختيار 2500 شخصية تعليمية تربوية قيادية- مثلاً- ذات كفاءة فائقة المستوى فى المؤهل والشخصية والقدرة الإدارية لإدارة ديوان الوزارة والقطاعات الإدارية التعليمية المقترحة (يُختار من بينهم 500 شخصية لديوان الوزارة، و250 شخصية لإدارة كل قطاع من القطاعات الثمانية)، على ألا تدخل فى ذلك الوساطات والعلاقات والتصنيف الحزبى، وقد يتصور البعض أن ذلك ضرب من الخيال، إلا أنه دون إجراء عملية جراحية تصويبية فى الوزارة فإن البديل هو بقاء الوضع الفاسد على ما هو عليه. وعلى كل قطاع من القطاعات التعليمية وضع نظام إدارى خاص به- وإذا لزم الاستفادة من الخبرات الأجنبية، ولكن دون تدخل مباشر لخبراء أجانب- بحيث يصبح هذا القطاع بمثابة وزارة قائمة بذاتها لا تربطها بالديوان العام للوزارة سوى الاستراتيجية العامة لنظام التعليم فى مصر، وأن يتم توزيع ميزانية التعليم المالية على القطاعات الثمانية على أن يتولى كل قطاع بمديرياته (قطاع وسط الدلتا مثلا ويضم مديريات التعليم بالغربية، وكفرالشيخ والمنوفية) إدارة شؤون المدارس والمؤسسات التعليمية التابعة له، والإنفاق على العملية التعليمية وتطويرها، وخلق طرق جديدة للتمويل من خلال البيئة التى يوجد بها القطاع، وتولى مسؤولية إقامة المدارس وتأثيثها، وتزويدها بالمعامل والمكتبات والكتب، والأدوات، والمواد اللازمة. ثالثا: خلق إدارة مدرسية ناجحة، فالمدرسة الناجحة هى المدرسة التى تمتلك إدارة ناجحة، بها مديرون يدركون ما هى الحاجات الحقيقية للعملية التعليمية، ويبذلون الجهود لإشباع هذه الحاجات عند التلاميذ. ومما يذكر فى هذا المجال أن ناظر أو مدير المدرسة بالولاياتالمتحدةالأمريكية تقع عليه مسؤوليات فنية وصلت إلى حد تنقيح المناهج، ووضع الاختبارات وتقييم الأعمال، فضلا عن أعماله الإدارية، ويدير نُظار المدارس الثانوية الأمريكية مدارسهم بأسلوب ديمقراطى، بما يعنى تعدد العقول التى تدير العمل، العقول القادرة على إنتاج الأفكار الصائبة بدلا من العقل الفردى الذى لن يستطيع وحده تحقيق المراد مهما بلغت قدرته، ولكى تتوافر إدارة ناجحة فى المدارس الثانوية- وغيرها- فى الولاياتالمتحدة تتم عملية اختيار دقيقة للأعضاء، الذين يشغلون مناصب الإدارة. ولذلك نرى أن يتم اختيار عدد من رجال التعليم المؤهلين والمدربين- دون الخضوع للأقدمية التى دمرتنا- لتولى إدارة المدارس الموجودة حاليا على أن تتصف الشخصية المختارة بالكفاءة والوطنية والمؤهل الأعلى والقدرة على الإدارة، وأن تكون ذات مواصفات ثقافية ومهنية عالية يمكنها أن تدير المدارس، فتعيد إليها مكانتها واحترامها، شخصيات لا تُختار بالوساطة ولا بالانتماء للحزب الحاكم، وإنما تُختار على أساس القدرة على العمل والإبداع، وحب الوطن، على أنه يجب أن يراعى العمل على منح المكافآت المناسبة لكل من يعمل بإخلاص وعطاء، مع محاسبة واستبعاد كل مقصر، ويمكن أن يتم ذلك من خلال جهاز إدارى للاختيار والمتابعة لكل قطاع تعليمى يتصف بالموضوعية والخبرة.