شاعت فى حياتنا العامة خلال العقود الأخيرة عقيدة جوهرها إنكار المشكلات التى تظهر فى مجتمعنا، والحديث بإصرار على أنه ليس فى الإمكان أبدع مما كان، وهى ظاهرة تخرج من رحم بُعد ثقافى متوارث منذ مئات السنين يتصف بضيق الأفق والانهزامية، ويقوم على أساس عدم القدرة على الفعل. وبالنسبة لحالة التعليم المصرى أقر الوزير المسؤول عنه خلال 14 عاما، د. حسين كامل بهاء الدين، أمام السيد رئيس الجمهورية فى 20 مايو 2004 بأن «التعليم فى مصر قد انهار»، وقال بالحرف الواحد: «لسنا وحدنا، نحن وزراء التعليم، المسؤولين عن غرق- آسف أقصد انهيار- العملية التعليمية فى مصر من الابتدائى حتى الجامعة خلال العقود الأربعة أو الخمسة الماضية، فهنالك شريك فى تحمل هذه المسؤولية هو (السستم)- يقصد النظام- الذى حكم مسيرتنا»، أى أنه كان يرى أن تطوير التعليم وإصلاح حاله أو تغيير نظامه كلية يستلزم عملية تغيير جميع النظم المتصلة بمنظومته، والتعليم المصرى انهار لأنه ينوء بحمل من المشكلات التى لا حصر لها، يلمسها رجل الشارع العادى، ويعيش معها أبناؤنا الطلاب، مشكلات لم يتصد أحد لحلها بإخلاص. وهناك آراء جادة تنتقد أحوالنا التعليمية بصدق، بين الحين والآخر، يطرحها بعض الحادبين على مستقبل هذا البلد، وتبدو بعض هذه الآراء، وبشكل متكرر، فى جميع أحاديث وتصريحات علماء أجلاء مثل د. محمد غنيم، ود. مصطفى السيد، ود.أحمد زويل، فحين يقول زويل إن مصر لن تحقق أى نقلة نوعية إلا إذا كان لديها نظام تعليمى متكامل، يستثمر العقل المصرى ويكرّم الإبداع ويحترمه، فذلك لأن هذا معناه أن التعليم هو البداية التى يراها، ولا يرى بداية غيرها لتطوير مصر وإنهاضها فى الوقت الحاضر، كما حدث فى عهد محمد على، وكما فعلت اليابان وكوريا والصين وماليزيا والهند وغيرها، ويذكر الكاتب الصحفى المعروف سليمان جودة أنه خلال حديثه مع الأستاذ إبراهيم كامل أبوالعينين، القيادى فى الحزب الوطنى، سأله عن أولويات اهتمامه لو أصبح مسؤولا فى السلطة التنفيذية فى مصر فقال: التعليم، ثم التعليم، ثم التعليم!. وإحساسا بأهمية التعليم أعلن الرئيس الأمريكى السابق بوش الابن فى خطاب له أمام منتدى وادى السليكون أنه «على الأمريكيين أن يفهموا أننا إن لم نُعلم أطفالنا فى المدارس والجامعات الرياضيات والعلوم فإن الوظائف سوف تذهب لدول أخرى». وهدف الرئيس من إعلانه هذا هو حث شعبه على دراسة العلوم حتى تتمكن أمريكا من الحفاظ على زعامتها العلمية وبالتالى الاقتصادية فى العالم. وإذا كان رئيس أكبر دولة فى العالم يرى أن بلاده لن تستطيع الاحتفاظ بمكانة علمية متميزة وسط المنافسة الشرسة بين دول العالم بدون مزيد من الاهتمام بدراسة العلوم والرياضيات، فماذا ترانا نفعل؟ إن ذلك يجعلنا بالضرورة نحس بمقدار الخطر الذى يتهددنا إذا لم نغير ونصلح نظم التعليم لدينا، وفى مقدمتها التعليم الثانوى،لأن التعليم قضية أمن قومى وليست قضية خدمات، إنه أمن للوطن والمواطن، وسبيل لتوفير جو من التقدم والنهضة والتوازن الاجتماعى والاقتصادى بين السكان. والحقيقة التى يجب ألا نتغافل عنها أن الحالة التى عليها التعليم المصرى الآن تؤكد أننا فى خطر حقيقى إذا لم يمكنا التصدى لحل مشكلاته، وقد يكون الوقت الذى نحن فيه وقتا فارقا بين أن نظل أو نزول، فيصبح وطننا وهويتنا وثقافتنا وانتماؤنا وقدرتنا على الوجود والخلق فى خبر كان. والحقيقة أن الإنسان المصرى عبر التاريخ لم يفتقد إرادة العمل وإرادة التنفيذ، وحتى إرادة الإبداع، ورغم أن الشعب المصرى تمر به فترات هزيمة وتراجع، إلا أنه سرعان ما ينفض عنه غبار الهزيمة والتراجع، فالإنسان المصرى بإرادته الصلبة وإيمانه العميق هو الذى شيد الهرم، إحدى أهم معجزات العالم قديما وحديثا، ونفس هذا الإنسان هو الذى حقق الهزيمة لجيوش الحيثيين بقيادة رمسيس الثانى، وهو الذى أمكنه التخطيط لحرب كبيرة كحرب أكتوبر 1973، التى اقتحم فيها جنوده خط بارليف وحطموه، وهزموا العدو الإسرائيلى المدعم بترسانة الأسلحة والتأييد الغربى. وخلاصة القول إن الإنسان المصرى لا يمكنه أن يفتقد القدرة على وضع نظام حديث مخطط للتعليم المصرى، يضمن به ليس فقط تحقيق إصلاح تعليمى واسع النطاق، بل تحقيق ثورة تعليمية تمكن هذا الشعب من اللحاق بالبلدان الأجنبية المتقدمة، ومنافستها على صدارة المنتج التعليمى، والحق أن كل ذلك يمكن أن يتم إذا ما خلصت النيات وسعت وزارة التعليم للاستفادة من ذوى الخبرات فى المسألة التعليمية- وهم كثر- وعدم غلق الباب على قلة محددة تدعى معرفتها بكل شىء، لأن ذلك يؤدى بنا إلى انحصار الأفق والتخلف. ولقد شعرت الحكومة مؤخرا بخطورة الوضع التعليمى فى مصر، فوضعت على رأس وزارة التربية والتعليم د. أحمد زكى بدر، ونحن ننتظر منه التغيير والتطوير، ولقد أرسلت إلى سيادة الوزير نسخة من دراستى حول استراتيجية التعليم فى مصر، وأمنياتى أن تكون قد وصلته، لأنه حتى الآن «لا حس ولا خبر»، فلعلنا نساهم مساهمة حقيقية فى إضافة لبنة متواضعة فى بناء صرح تعليمى معاصر لخدمة هذا الوطن، ولا نريد مصلحة لنا أكبر من تحقيق مصلحة وطن ينهار- خاصة فى مجال التعليم- وأبناؤه ما زالوا على قيد الحياة. وتغيير نظام التعليم فى بلادنا معناه إحداث نقلة نوعية تجعل المتابع لسير الأحداث يشعر بأن نظاما جديدا قد حلّ محل النظام السابق عليه، والتطوير الحقيقى للتعليم لا يعنى الترقيع أو تسكين الآلام بشكل مؤقت، وهو ليس تغييرا شكليا للدعاية والإعلام، إنما هو ذلك الذى يُحدث تغييرا جوهريا فى نظم مؤسساتنا التعليمية. ولكى نحقق التغيير الجوهرى الذى ننشده لابد من وجود الفكر الشامل والأسلوب المتكامل فى خططنا، فاللجوء إلى إصلاح التعليم بالتجزئة يُسقط من حساباتنا أن التعليم منظومة متكاملة العناصر، ولذلك لا يمكن لأحد أن يتصور عمل نظام جديد للتعليم الثانوى العام والفنى بشكل ناجح دون تطوير مجمل النظام التعليمى- من الحضانة حتى الجامعة- وأى شخص يفكر بخلاف ذلك ما هو إلا حالم أو خيالى، أو يريد علاج المشكلة علاجا مؤقتا سرعان ما يثبت فشله كما ثبت فشل غيره من النظم ، فلنصلح التعليم إصلاحا حقيقيا لأن إصلاح التعليم هو المدخل الوحيد لإصلاح مصر كلها.