المسألة أكبر من البرادعى ومن ألف برادعى، إنه الزخم الذى تشهده مصر الآن ومرت به قبلها معظم المجتمعات الغربية التى تنعم الآن بالتقدم والرفاهية، ودفعت مقابله آلاما باهظة، مخاض الانتقال من مرحلة الحاكم نصف الإله إلى مرحلة الحاكم الإنسان. من الطبيعى جداً أن تصاحب المخاض آلام شديدة، ولكنه الألم العذب الذى يتبخر لحظة سماع صوت الوليد. البشرية جربت أنواعا كثيرة من العلاقات بين الحاكم والمحكوم، ثم وجدت أن أقرب وسيلة للحصول على الحياة الكريمة هى الديمقراطية بما تشتمل عليه من انتخاب الحاكم من بين أكثر من مرشح، مع تداول سلطة يسمح بتغيير الحاكم غير الكفء وإخلاء مكانه للأكفأ، لأن مجىء حكام عادلين بغير هذه الطريقة - مثل عمر بن عبدالعزيز - يكون بمصادفة نادرة لا يُضمن تكرارها، والأكثر شيوعاً أن يأتى المستبدون. وحتى لو كان الحاكم كفئاً فيجب ألا يمكث أكثر من فترتين، لأن خسارة حاكم كفء أقل ضرراً من خسارة المنظومة كلها. لذلك يُخطئ من يصوّر المسألة على أنها مجىء البرادعى لأنه جيد وذهاب مبارك لأنه سيئ. فلو جاء البرادعى بنفس الآلية التى جاء بها مبارك فنحن لم ننجز شيئا، لأننا لا نريد أن نستبدل رئيساً مطلقاً برئيس مطلق، ولا نريد أن نسمع أغنية فى مديح البرادعى بدلاً من «اخترناه» فى مديح مبارك، كما سمعناها بدلاً من «يا سادات يا حبيبنا» التى سمعناها بدورنا بدلا من «ناصر يا زعيم الحرية». صعب جدا أن نسمع فى أمريكا أغنية تقول «يا كلينتون يا حبيبنا»!. هدفنا هو الانتقال من مرحلة الحاكم نصف الإله الذى لا يمكن تغييره ولا يُسأل عما يفعل، إلى الحاكم الموظف الذى يُمكن تغييره وتجب مساءلته. الهدف هو نزع الصفات شبه الإلهية منه ليعود واحداً من الناس، لأنه - ببساطة - يعيش من فلوسنا. الحاكم - أياً كان اسمه - لم ينشئ بيزنس خاصاً به ويتحمل مخاطره، ولم يشتغل فى إيطاليا أو الخليج ويتجرع الغربة، ولم يرث عن أبيه وأجداده، وبالتالى فكل مليم ينفقه، وكل طعام يأكله، وكل بيت يسكنه هو من جيوب الشعب. وبالتالى من حق الشعب أن يحاسبه ويغيّره كما هو حادث فى كل العالم. عبدالناصر والسادات ومبارك: كلهم حاكم واحد فى جوهرهم وإن اختلفت أسماؤهم، كلهم فوق المساءلة بحكم الأمر الواقع والصلاحيات الدستورية الواسعة لمنصب رئيس الجمهورية. لو جاء البرادعى بنفس صلاحيات مبارك فنحن لم نصنع شيئاً، حتى لو كان البرادعى جيداً، لأن الذى سيليه ربما يكون سيئاً. أما لو تغير الدستور وأصبح واضحاً فى عقول الناس أننا نبحث عن موظف بدرجة رئيس جمهورية، وليس عن ملهم أو زعيم فقد وضعنا أقدامنا على بداية الطريق الصحيح، وقتها لن يكون مهما أن يكون هذا الموظف - بدرجة رئيس الجمهورية - اسمه البرادعى أو أى اسم آخر.