أعرف أن هذا المشهد يتكرر فى كثير من الأمكنة والأزمنة، لكن عينىّ لم تصادفاه منذ كنت أحضر مؤتمراً فى بيونس أيرس عاصمة الأرجنتين سنة 1967.. كان وسط المدينة، حيث يعقد المؤتمر، غارقاً فى فيض من أضواء متاجر الترف والسيارات الفارهة، ولكنك لا تكاد تسير أكثر من نصف كيلومتر حتى تجد العشوائيات، المعروفة ب«مدن الصفيح»، وكأنها حزام بؤس ويأس يلف المدينة من كل جانب.. هناك رأيت لأول مرة المشهد المفجع، أطفالاً ينقبون عن بقايا طعام وسط أكوام القمامة. بعد 43 سنة، تكرر المشهد أمامى يوم الجمعة الماضى كما لو كان نسخة طبق الأصل وأنا فى طريقى إلى الفيوم، عندما دخلت بنا السيارة فى شارع يبدو أنه الشارع الرئيسى فى مركز سنورس، وإلا لما سمى «شارع مبارك».. على جانب الطريق كان هناك طفلان فى نحو العاشرة من عمرهما يعتليان حاوية للقمامة، وفى يد كل منهما كيس من البلاستيك.. واحد منها كان يعبئ كيسه ببعض نفايات يبدو أن لها قيمة ما فى حين كان الآخر يملأ كيسه ببقايا طعام.. مشهد أغبر صادم، خاصة وأنت فى ريف مصر حيث تشيع المقولة الجوفاء أنه لا يوجد أحد يبيت ليلته دون عشاء.. طحننى يومها شعور جارف بالندم أننى لم أتوقف لحظتها بالسيارة التى كنت أستقلها مع بعض الصحاب، لأعطى الطفلين بعض الشطائر التى كنا ندخرها معنا ليوم لم نكن نضمن ما سيحمله لنا من مفاجآت. كنا فى الطريق إلى مستشفى سنورس العام، حيث يرقد بين الحياة والموت الدكتور طه عبدالتواب، الذى تناقلت اسمه وكالات الأنباء العالمية منذ ليلة الاثنين الماضى بعد أن شارك فى مؤتمر تأييد للدكتور محمد البرادعى فى إطسا.. يروى صديقنا الكاتب الصحفى الأستاذ جمال فهمى أنه فى تلك الليلة تعرض الطبيب الشاب ل«تعذيب إجرامى ووحشى فى مقر مباحث أمن الدولة، لم يقتصر من فرط الانحطاط والخسة على الضرب والسحل وشتى صنوف الإيذاء البدنى، بل واكبه فيض من الإهانات الوضيعة، لم تبدأ بالشتائم والتهديدات البذيئة ولم تنته بتجريد الشاب من ملابسه تماماً وإلقائه عارياً حتى صباح اليوم التالى، حيث قام المجرمون السفلة بإلقائه على قارعة الطريق وهو مضعضع الجسد مهدور الكرامة».. هذا ما حدا ب«طه عبدالتواب» إلى أن يعلن الإضراب عن الطعام والشراب عندما نقل إلى المستشفى ويرفض حقن المحاليل التى يمكن أن تبقيه على قيد الحياة ولو لأيام. بادر الدكتور محمد أبوالغار، الأب الروحى لحركة 9 مارس لأساتذة الجامعات، بالاتصال بوكيل وزارة الصحة فى الفيوم وبمدير مستشفى سنورس ليحاولا معه إعطاء الدكتور طه المحاليل ولو بالقوة، وأفلحوا فى ذلك بالفعل لمرة واحدة رفض بعد ذلك تكرارها... عندها بدا أن صحة الدكتور طه على وشك أن تتدهور، ثم دخل فى غيبوبة متقطعة تنذر بما هو أسوأ، فدعانا أستاذ القلب الشهير الدكتور عبدالجليل مصطفى، منسق حركة كفاية السابق، إلى عيادته فى القاهرة، حيث حضرت نخبة من أعضاء «الجمعية الوطنية للتغيير» بينهم عمدتنا الدكتور محمد غنيم والدكتور علاء الأسوانى والدكتور أبوالغار والأستاذ جورج إسحق والمحامى البارز عصام سلطان والمفكر الشاب المصطفى حجازى، حيث قمنا بإخطار الدكتور البرادعى بالموقف فأصدر البيان الحازم الذى طالب فيه «السلطات المعنية بتقديم مرتكب هذه الجريمة البشعة إلى القضاء العادل ليلقى الجزاء الذى يستحقه»، وأعلن أن هذه الممارسات «لن تخيف شعبنا أو ترهبه أو تُسكت صوته، ولن تزيده إلا إصراراً وقوة إلى أن يتحقق حلم التغيير». فى اليوم التالى كان هناك جمع من أعضاء الجمعية الوطنية فى سنورس مع وفد من شبابها فى فرعى القاهرةوالفيوم يتصدرهم الشاعر عبدالرحمن يوسف، منسق حملة توكيلات البرادعى، بعد استقبال بروتوكولى لطيف فى مكتب مدير المستشفى أعقبته مشاحنات مفتعلة مع أمن المستشفى لمنعنا من الدخول.. استطعنا الوصول إلى ما يسمى غرفة العناية المركزة، وهى غرفة أشهد أنها نظيفة إلا أنها تفتقد أى ترتيبات أو معدات للرعاية، عادية كانت أو مركزة.. بصعوبة بالغة سمح الدكتور طه لأساتذة الطب فى الوفد بالكشف عليه، وبصعوبة أكبر رضخ لتناول المحاليل مرة أخرى «مصر كلها محبوسة ومهانة مش أنا لوحدى»، صاح فينا الدكتور طه.. نعم يا دكتور نعلم، لكن بالله عليك لا تفرط فى حياتك.. الإضراب اسمه فى العالم كله إضراب عن الطعام.. هذا يبقيك على قيد الحياة شهرين أو أكثر، أما إذا أضربت عن الماء أيضاً فستنتهى فى أيام وتنتهى معك حكايتك.. لكن توسلاتنا لم تسفر عن صدى عند الطبيب الشاب الذى ظل يردد أن «الحرية لازم ليها شهدا» ونحن نلح فى الرجاء أن يبقى حياً لتعيش القضية. الدكتور طه شاب فى الثلاثين، يشبه كثيراً من الشباب فى هذا العمر، متزوج وله ثلاثة أبناء، ناجح فى عمله، لم ينضم من قبل لتنظيم سياسى، لكنه معروف بصوته العالى عندما يتكلم عن أحوال البلد.. ليلة الاثنين الماضى قادته قدماه إلى مؤتمر تأييد البرادعى وهو ليس عضواً فى جمعيته أو مشاركاً فى حملته.. انتهت الليلة فى قبو مباحث أمن الدولة، حيث التقى الزبانية الذين نشر عنهم الدكتور علاء الأسوانى قصته فى جريدة الشروق «حادث مؤسف لضابط أمن دولة» ظلت يده تنزف دماً دون أن تكون بها إصابة، ولم تتوقف يده عن النزف إلا بعد أن استقال من وظيفته.. أما الضابط المتهم فى قصة سنورس المقدم محمد عبدالتواب فلا يعرف سوى أهل بيته إن كانت يده قد نزفت دماً وهو عائد إليهم فجر الثلاثاء.. كل ما نعرفه أنه كان يجب أن يمثل أمام النيابة يوم السبت، لكن جلسة التحقيق لسبب ما لم تنعقد فى الصباح، لهذا تظاهر عشرات من أعضاء الحملة الشعبية لتأييد البرادعى أمام مكتب النائب العام يومها. قيل إن النائب العام أوفد إلى الدكتور طه من يطمئنه أن التحقيق سيتم فى وقت لاحق، وأنه سيجرى بنزاهة، لكن عناد الطبيب الشاب لم يتزعزع.. الروح وصلت إلى الحلقوم، ولم يعد هناك مجال لصبر ولا لصمت فى كل الأحوال.. سيقف المقدم محمد عبدالتواب أمام النيابة، وهناك ستكشف التفاصيل وتتبين الحقائق وربما يبدأ الحساب.. أمام سلطات القضاء لا مجال للقلق.. القلق يأتى من جو الترويع الذى لا تشارك فيه أجهزة القمع وحدها، وإنما تغذيه كتيبة التحريض التى يتصدرها عضو مجلس سياسات الحزب الوطنى الدكتور جهاد عودة.. آخر تصريحاته أن «البرادعى ليس كبيراً على الاعتقال، واسألوا أيمن نور».. مسؤولية الدكتور عودة لا تقل عن مسؤولية جهاز مباحث أمن الدولة فى الفيوم الذى يلاحق أشقاء الدكتور طه وأقرباءه حتى الآن بالترهيب والترغيب، ويلاحق الدكتور طه نفسه بتهمة الانتماء لجماعة الإخوان المسلمين، أو بتلفيق رواية فحواها أنه اختلق واقعة التعذيب ليضغط بها على المسؤولين فى المستشفى الذى يعمل به للحصول على إجازة فى حين أنه حصل على إجازة دون راتب منذ ثلاث سنوات. لا أستطيع أن أجادل فى حق السلطة أن تحتجز عضواً فى جماعة محظورة «!»، ولكن الاعتقال إذا تم فيجب أن يكون بالقانون، ودون تطاول أو إهانة أو اعتداء على المعتقل أو إنكار لحقوقه.. ذهبنا إلى الدكتور طه عبدالتواب لنؤكد أننا سنقف ضد هذه الممارسات، سواء كان ينتمى لجماعة البرادعى أو لغيرها، ولنقول إننا لن نخاف وإننا مستمرون فى المناداة بالتغيير. ونحن عائدون فى الطريق طلبت من صحابى أن نمر بشارع مبارك.. كنت أود أن أبحث عن الطفلين اللذين كانا يعتليان حاوية القمامة، ليس فقط لأغسل ذنبى وأعطيهما بعضاً مما لدينا من طعام، ولكن لأحاول أن أشرح لهما أنهما لن يجدا لقمة عيش كريمة إلا إذا نال الدكتور طه عبدالتواب حريته.. الحرية هى التى ستتيح لنا العيش الكريم واللقمة الهنية، لأنها ستمكننا من مساءلة الحاكم ومحاسبته وتغييره إذا لم نحصل على هذه الحقوق.. هذا أوان التغيير.