لطالما وجهنا الانتقادات للإعلام المصرى، ولطالما وصفنا أداءه، فى مفاصل عديدة، بعدم المهنية والرداءة والانحياز المفرط لمصالح سياسية أو تجارية، لكن المسار الذى اتخذته التغطية الإعلامية لعودة الدكتور محمد البرادعى الأخيرة للبلد وما صاحبها من تداعيات وتفاعلات، يبعث الأمل من جديد فى قدرة هذا الإعلام على التحلى بقدر من الرشد والنزاهة، بما يمكنه من احتلال مكانة لائقة وموقع مؤثر فى سباق منافسة حادة وضغوط عنيفة. فى شهر ديسمبر من العام الماضى، فتحت وسائل الإعلام الحكومية، وبعض التعبيرات الإعلامية الخاصة نيران مدفعيتها الثقيلة على البرادعى، بمجرد أن أعلن مجموعة من الاشتراطات التى يرغب فى تحقيقها، ليحدد موقفه من الترشح لرئاسة الجمهورية. ولقد كانت الحملة الإعلامية على الرجل قاسية ومسفة ومتشنجة وبلهاء فى آن، إذ عكست هجوماً حاداً غير مبرر وغير متناسب مع حجم الفعل الذى استهدفته ولا «التهديد» الآتى معه، كما امتلأت بالعبارات والأوصاف المشينة والمتردية مهنياً وأخلاقياً، وبدت متوترة وعصبية فى أجواء حوار يفترض أن يكون هادئاً، وتفاعل سياسى يجدر به أن يتم فى إطار عقلانى، وأخيراً فقد قادت قطاعاً من الجمهور المتردد إلى الوقوف خلف البرادعى تعاطفاً معه، وأضرت بحظوظ الرئيس مبارك ونجله وأتباعهما من حيث أرادت أن تعززها، وعبرت عن ترد أخلاقى وسياسى وعقلى واسع لدى قطاعات الدعم الإعلامى للحكم والحزب الوطنى والهيكل البيروقراطى الذى يحتضنه. فى ذلك الوقت، كان الخبر الرئيسى عن مصر فى وسائل الإعلام العالمية والإقليمية لا يخرج عن عنوان واحد مفاده «إعلام السلطة يشن هجوماً حاداً على البرادعى»، وهى خدمة جليلة تم تقديمها إلى هذا السياسى الطموح من جهة، وصفعة كبيرة لهذا النوع من الأداء الإعلامى وما يمثله من جهة أخرى. كان من المنطقى فى مثل تلك الأجواء أن يهيمن شك عميق على الجمهور، داخل مصر وخارجها، فى مصداقية التغطية الإعلامية المصاحبة للتطورات المهمة التى أتى بها البرادعى إلى السياسة المصرية، خصوصاً أن بعض وسائل الإعلام الخاصة، التى دأبت على ممارسة نوع من المعارضة الصبيانية وأحياناً المجانية، كانت، فى الاتجاه الآخر، تبالغ، فتصور البرادعى على أنه «بطل أسطورى، يأتى من خلف السحاب، ليحيل شقاء الوطن والمواطنين المقيم إلى سعادة سرمدية، بضربة واحدة من عصاه السحرية». وقد تورط فى هذا الهزل، للأسف الشديد، بعض وسائل الإعلام الحكومية التى بقيت تجاهد للحفاظ على بقايا قليلة من المهنية تغطى بها عورات التدنى المهنى العام، ومعها نفر من كُتّاب ومفكرين كانوا يحظون بسمعة حسنة وقدر من احترام، وعدد من الصحف المعارضة، التى أظهرت الكثير من الانتهازية والتخبط فى الأداء، ووسائل إعلام خاصة اختارت الغياب تماماً عن الحدث، وكأنه لم يقع ولم يلفت أنظار الناس، أو اقتربت منه بانحياز مغرض وأداء مهنى معيب. وفى الوقت الذى ظن فيه كثيرون أن الإعلام المصرى بأذرعه المختلفة فشل فى الاختبار المهنى الكبير، وأخفق فى أن يتحول إلى مصدر اعتماد رئيسى للجمهور، فى الداخل والخارج، فيما يتعلق بأخبار البرادعى والتفاعلات السياسية المصاحبة لخطوته التاريخية، إذا بالأوضاع تتبدل سريعاً، وتظهر إشارات موحية تدل على أن ثمة ضوءاً يلوح فى نهاية النفق. لم يعد الإعلام الحكومى قادراً على تكرار الاتهامات المشينة التى ألحقها بالبرادعى، ولا سوق الحجج الفارغة التى استند إليها فى محاولة تسفيه طرحه، إذ استنكرت الوطنية المصرية هذا الأداء المسف استنكاراً جلياً، وعاقبت مرتكبيه بإبداء الازدراء أو الانصراف التام فى أقل تقدير، كما أدرك الحكم أن تلك الممارسة صبت فى مصلحة خصومه وأضرت بصورته كثيراً، كما أن البرادعى نفسه أظهر قدراً من الحنكة والشجاعة فى مواجهة هذا الهجوم البذىء، بشكل قلل فرص تكراره، وفند حجج غرابية. ومع عودة البرادعى الأخيرة، وما سبقها من رسائل إعلامية اختار لها عدداً من المنابر الخاصة، وما صاحبها من تفاعلات جماهيرية وسياسية، وما تلاها من تطورات مهمة وذات أثر مستدام على العملية السياسية التنافسية، التى نتوقع جميعاً وصولها إلى الذروة فى الشهور المقبلة، ظهر أن قطاعاً ضمن الإعلام المصرى بات مصدر اعتماد رئيسى يتحلى بالثقة والمصداقية لدى قدر كبير من الجمهور داخل البلاد وخارجها فيما يتعلق بهذا التطور التاريخى المهم. ولعل كثيرين من أفراد النخب والجمهور، الذين دأبوا على التزود بالمعلومات والتحليلات والآراء عن الأحداث الحيوية المتعلقة بمصر من وسائل إعلام إقليمية وعالمية، أدركوا بالفعل أن بعض وسائل الإعلام المصرية الخاصة، مثل «المصرى اليوم» وفضائية «دريم»، استطاعت البرهنة على قدرتها على مقاربة مثل هذا الموضوع الشائك والخطير بقدر من المهنية والاحتراف والنزاهة يعزز لدينا الأمل فى مستقبل أفضل للمنظومة الإعلامية المصرية كلها.