يعرف التاريخ فترات دخل فيها مجلس الدولة فى صدام مع أهل الحكم، ولكن ربما كانت معركته الحالية ضد تعيين أوائل خريجات كليات الحقوق كقضاة فى محاكمه هى معركته الأولى ضد المجتمع. خاض مجلس الدولة معاركه فى الماضى وانتصر فيها لأن دفاعه كان عن الاستقلال والحريات وحقوق الإنسان، أما تلك المعركة فسوف يخسرها بجدارة لأنها معركة ضد نصف المجتمع، وضد التطور وضد حركة التاريخ. سوف يكتب التاريخ أن مجلس الدولة الذى خاض معارك ضد حكومة الوفد والملك من أجل الدفاع عن استقلاله، والذى وقف صلبا ضد الثوار الجدد كى يحمى حريات المواطنين، هو ذاته الذى قرر فى القرن الحادى والعشرين أن يحارب قطاعاً عريضاً من المجتمع حربا لا يسنده فيها الدستور ولا القانون، وإنما تدفعه إليها عادات مرذولة وتقاليد بالية، سؤالان رئيسيان يتعين الإجابة عنهما السؤال الأول هل يملك المجلس الخاص أو الجمعية العمومية لمجلس الدولة الحق فى مخالفة الدستور والقانون؟ الإجابة هى بالنفى فالقانون يعلو ولا يعلى عليه، وهو الذى يحكم به القاضى بين الناس، فإن خالفه– وحاشاه– يكن مرتكبا لجريمة إنكار العدالة مستحقا للعزل من وظيفته. السؤال الثانى هل يمنع الدستور أو القانون أن تجلس النساء للقضاء بين الناس فى محاكم المجلس أو فى غيرها؟ والإجابة هى أيضا بالنفى فالذكورة ليست شرطا للتعيين فى وظائف القضاة لا فى مجلس الدولة ولا فى غيره من جهات القضاء، والدستور من قبل ذلك يسوى بين جميع المصريين ذكرانا وإناثا بلا تفرقة بينهم فى الحقوق والواجبات. فما هى حجة من عارضوا تعيين النساء على خلاف حرف الدستور ونص القانون، ورغم سبق موافقتهم على ذلك؟. يقول المستشار عادل فرغلى عضو المجلس الخاص فى تصريح لجريدة الأهرام إن سبب القرار هو الثقافة المجتمعية التى لا تقبل أن تخرج المرأة للعمل ساعات طويلة وتعود إلى منزلها متأخرة!. هل اكتشف بعض أعضاء المجلس الخاص فجاءة تلك الثقافة المجتمعية؟ هل لم يكونوا على علم بها يوم وافقوا وقبل أشهر معدودة على قبول النساء كقضاة وأعلنوا عن ذلك فى الصحف السيارة؟ ألا تعمل النساء فى مصر طبيبات يخرجن فى جوف الليل لإنقاذ زوجاتنا إن جاءهن المخاض؟. إن موقف السلطة القضائية بشكل عام من تعيين النساء قاضيات فى مصر يتسم فى حقيقته بالكثير من التمييز والتعالى ويمكن أن نرد عليه ببعض الحقائق. الحقيقة الأولى أن جميع الدول العربية قد سلمت النساء زمام القضاء فى سوريا والأردن واليمن والسودان وقطر والجزائر، وغيرها من بلاد العرب، تجلس النساء للقضاء بين الناس فى سلاسة ويسر. الحقيقة الثانية أن عضوات البرلمان يلعبن دورا أوسع وأكثر تأثيرا من القضاء ذاته، فالقاضى فى مصر يطبق القانون الذى يصدره البرلمان، وهو القانون الذى من المؤكد أن عضوات البرلمان قد شاركن فى صياغته ومناقشته وإقراره. الحقيقة الثالثة أن هناك تيارا محافظا ينمو بين القضاة فى جهاته المختلفة منذ نهاية سبعينيات القرن الماضى ويطبع الكثير من أحكامه بطابع محافظ فى بعض الأحيان، وهو أمر يثير إشفاق الكثير من المطالبين بدولة مدنية الحكم فيها للدستور الذى يضعه الشعب، والقوانين التى يسنها برلمانه المنتخب دون النظر إلى أى اعتبارات أخرى. الحقيقة الرابعة أن تأثير المادة الثانية من الدستور أوضح من أن يتم إخفاؤه فكثير من القضاة يستخدمون تلك المادة من أجل خلخلة البنيان المدنى للدولة واستدعاء فقه الجمود الذى اندثر كى يستعيد عافيته هنا فى مصر من جديد. عندما تتعرض السفينة للغرق فإن ربانها يرسل رسالة استغاثة إلى العالم تحمل اختصارا لعبارة «أنقذوا أرواحنا»، وأظن أن هذا ما فعله المستشار الجليل رئيس مجلس الدولة محمد الحسينى فى مؤتمره الصحفى حين قال إنه «يشك فى أن أيادى خفية بالمجلس تحاول تشوية صورته بعد أن ظل شامخا لسنوات طويلة»، تلك هى الرسالة فمن يلتقطها.. من ينقذ المجلس؟