لا يوجد ما يفسد الاستراتيجية أي استخدام وسائط ووسائل وقدرات لتحقيق أهداف بعينها قدر خلطها برؤية تاريخية حتمية من نوع ما بعينها. فما هو ناشئ عن قدرة الإنسان علي تشكيل الزمن الاستراتيجية لا يمكن خلطه بملايين العناصر والمتغيرات والمدخلات والمخرجات التي تشكل الأزمان والحقب التاريخية. فالاستراتيجية حالة عقلية محسوبة لإمكانيات وقدرات معلومة ومقدرة أما التاريخ فهو حركة مستمرة من الميلاد والموت والتراكم الزمني والتغيرات الكمية والنوعية. ولا يوجد ما يفسد الاستراتيجية قدر التصور أنها جزء من خطة تاريخية أو تصور إلهي عن الكون، ووظيفة المخطط الاستراتيجي والقائد السياسي أن يكسب موقعة وينتصر في حرب ويفوز في صراع له أول وله آخر، أما التاريخ وصناعته فتلك مهمة يقوم بها كل البشر ولا يمكن الحكم أبدا بمن فاز فيها ومن انتصر، فتلك الأيام نداولها بين الناس حسب القول الكريم. وربما كان أشهر من خلطوا الاستراتيجية بالتاريخ الزعيم الألماني أدولف هتلر الذي تصور أن حركته النازية جزء من حركة تاريخية عظمي لنصرة شعوب متفوقة آن لها أن تسود حركة التاريخ. ولأنه كان يعتقد في ذلك فإنه لم يمانع أبدا في فتح جبهات ما كان لها أن تفتح، والصدام مع أعداء ما كان له أبدا الصدام معهم. وكانت النتيجة التي لم يتصورها وهو في خندقه بالعاصمة برلين هي الهزيمة وتقسيم ألمانيا وإرجاعها إلي العصور الحجرية. المدهش بعد ذلك أن ألمانيا التي تغير تاريخها عاشت في إستراتيجية الوحدة الأوروبية، فربطت تاريخها بآخرين، وتركت للقوي الاقتصادية والاجتماعية أن تقوم بأدوارها التاريخية فكانت النتيجة هي الاتحاد الأوروبي وعملته الأوروبية وبنكها المركزي في الدولة الألمانية. وكان أفدح أمثلة الخلط ما جري في روسيا وتوسعاتها السوفيتية عندما خلطت هي الأخري بين الاستراتيجية الخاصة بتمدد إمبراطوري بفكرة تاريخية عن حتمية انتصار دولة العمال والفلاحين في عالم اشتراكي ثم شيوعي سعيد للغاية. وبينما كانت النظرية تقول بأن هذا الحلم سيكون نتيجة لانتصار الرأسمالية ! فإن الاستراتيجية قامت علي الفقراء الذين لا يعرفون الرأسمالية، ودخلت في معركة حياة أو موت مع الرأسمالية المتفوقة. والنتيجة بعد ذلك معروفة، فقد هزم الاتحاد السوفييتي وانهار وأصبحت روسيا نفسها بلدا من بلدان العالم الثالث. والأمثلة ليست دوما فيما مضي من الزمن، فهناك منها ما يجري أمام أعيننا، وعندما خرج جورج بوش علي العالم بنظريته عن حتمية انتصاره عندما تنتصر الديمقراطية في العالم العربي، فإنه كان يخلط الماء بالزيت. وعندما دخل العراق غازيا اعتبرها جزءا من معركة الديمقراطية في العالم التي رآها بدورها جزءا من الحرب العالمية ضد الإرهاب، ولكن النتيجة هي أنه لم تنتصر الديمقراطية ولم ينتصر في العراق، ولا يوجد ما يشير إلي أنه سوف ينتصر في المعركة ضد الإرهاب. وربما كان صحيحا أن طريق الألف ميل يبدأ دائما بخطوة واحدة، لكنه لا يمكن معرفة الذي يجري علي مدي ألف ميل من الطرق المتعرجة والملتوية التي قد تصل بك بعد ألاف عام إلي ذات النقطة التي كنت فيها عند البداية !. أمر من هذا يجري في فلسطين ولبنان هذه الأيام، فحماس التي أتت إلي السلطة من خلال صناديق الانتخابات بدا لها الأمر وكأنه جزء من الأقدار التاريخية، ولفترة تصورت أن تصويت الشعب الفلسطيني لها يعني تصويتا عالميا بقبول إستراتيجيتها في تحرير فلسطين. وكان كل ذلك الحرب والتصويت جزءا من إيمان تاريخي بالانتصار، وإذا كان الحال كذلك فإن خسارة كل المعارك لا بد من فهمها علي أنها جزء من الانتصار التاريخي المحتوم. وهكذا فإن حماس وحلفائها من الجماعات والطوائف تتصرف دائما وكأنها منتصرة حتي ولو كانت أرض فلسطين يتم تمزيقها، وحتي لو كانت السلطة الوطنية الفلسطينية يجري تقويضها. وفي مثل هذه الحالة من العبث الاستراتيجي والتاريخي أيضا يصبح خطف جندي نوعا من إدارة التاريخ كله حتي يأتي النصر المؤزر حتي ولو بعد ألف عام. وبالطبع فإن أحدا لن يعرف بعد كل هذا الوقت لن يعرف عنا إذا كانت حماس صائبة أم مخطئة. وفي بيروت لم تكن القصة مختلفة كثيرا، فقد دخل حزب الله علي الخط لكي يختطف جنديين إسرائيليين بعد فترة هدوء طويلة علي الحدود اللبنانية الإسرائيلية، وكانت النتيجة ما نراه من ضياع لبنان كلها. ولكن القضية بالنسبة لحزب الله ليست كذلك، فهو من البداية لم تكن تهمه الدولة اللبنانية كثيرا، وما يهم هو العمل الاستراتيجي من خلال حركة تاريخية تقود إلي نصرة الإسلام وإعلاء راياته. وقد جاء الوقت الذي تقترب فيه إيران من القنابل الذرية، ويعود فيه الفلسطينيون إلي الانتفاضة، وتزأر عمليات السيد أسامة بن لادن بامتداد العالم طولا وعرضا، وعندما تضاف جبهة جديدة في لبنان فإن التاريخ يكون قد وقف مرة أخري علي قدميه. وفي كل الحالات المشار إليها كانت الخطوة الأولي في الخلط بين الزيت والماء عندما تتم خصخصة الشأن العام، فقد تم تفصيل كل المصالح الألمانية علي المقاس النازي، كما جري تفصيل المصالح الروسية علي مقاس الحزب الشيوعي البلشفي، وفي منطقتنا جرت خصخصة النضال لصالح جماعات تتحدث باسم الرب جل وعلي وتصل إلي عتباته عن طريق الاستشهاد. وعندما تكون الأمور مفتوحة علي هذا النحو حيث ينفتح التاريخ علي نهايات مفتوحة دائما فإنه لا يكون هناك تعريف محدد للنصر أو الهزيمة، وبالتالي لا يكون الحساب ممكنا إلا بعد عمر طويل، وعلي أي الأحوال فإنه سيكون حساب المؤرخين الذين تكون أحكامهم كتبا وكلمات يجري إعادة كتابتها كل فترة. وما هو مزعج في الموضوع كله هو أن هذا الخلط بين الاستراتيجية والتاريخ شائع بشدة بين المثقفين وأهل الشارع، وهناك بين العرب من لا يفهم لماذا لا يقوم كل اللبنانيين بما يقوم به حزب الله، بل إن جلهم لا يفهم لماذا لا تتدافع الحكومات لنصرة حماس في معركتها حول الجندي جلعاد شلاط، فطالما كانت المعركة مضمونة في النهاية، هناك عمليات عسكرية " نوعية "، وطالما هناك غضب في إسرائيل من نوع أو آخر، فلا بد أننا منتصرون. وعندما يجتمع الناس علي السفح والقمة علي مثل هذا الخلط فإن النتائج تكون مماثلة تماما لما نراه في العالم العربي هذه الأيام !