بعد شهرين من اليوم يبدأ مجلس الأممالمتحدة لحقوق الإنسان نظر تقرير مصر عن حالة حقوق الإنسان فيها، ضمن المراجعة الدورية لمدى وفاء الدول المختلفة بتعهداتها فى إطار الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان التى صادقت عليها. والمقصود بهذه المراجعة فى الأصل هو قياس احترام الحكومات لحقوق الفرد والجماعة والأقليات وليس احترام الأفراد لنظام الدولة وسياسات الحكومات أو مقتضيات الحكم، خاصة غير الرشيد منها. حقوق الفرد فى كل مكان وزمان فى مواجهة النظام العام كانت دائما محور الحراك السياسى والاجتماعى والتى تأصّلت بعد 400 سنة من الصراعات والثورات فى الإعلان العالمى لحقوق الإنسان عام 1948 وفى 60 معاهدة دولية تفرّعت من الإعلان العالمى وما سبقه. ورغم كل ما أحاط بتقرير مصر من نقاش عام وتقارير موازية وما كشفت عنه المنظمات الحقوقية من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان فى مصر على مدى السنوات الأربع الماضية، وهى الفترة التى يغطيها التقرير الذى سيناقش فى منتصف فبراير القادم، فإن النتيجة ستكون فى الأغلب مخيّبة للتوقعات والآمال. فتحالفات الحكومات ومصالحها قد انتصرت على مبادئ حقوق الإنسان. كان الدكتور مفيد شهاب، وزير الدولة للشئون القانونية والمجالس النيابية محقا عندما كتب فى مقال له منذ شهر بالأهرام (18/11) أن «الغاية أو المحصلة النهائية للمراجعة الدورية» هى «أن المسألة تبقى فى جوهرها حوارا تفاعليا بين الدول أعضاء الأممالمتحدة يستهدف تبادل الخبرات والتجارب فى مجال تعزيز وحماية حقوق الإنسان ويفضى فى النهاية إلى تقديم توصيات إلى الدولة محل المراجعة». ويضيف أنه قد جرى العمل على أن تقبل الدول «أغلب التوصيات ولا ترفض إلا ما يتعارض مع ثوابتها القيمية أو الدينية أو المجتمعية»، فعملية المراجعة «لا تعد كما يظن البعض امتحانا أو اختبارا للدولة محل المراجعة». وهذا هو لب المشكلة. مجلس حقوق الإنسان الذى سيقوم بالمراجعة مخلوق غريب، فهو وريث لجنة حقوق الإنسان التى سقطت من اعتبار المجتمع الدولى حينما انتخبت ليبيا بسجلها غير المشرّف رئيسا للجنة فى عام 2003 بدعم من الدول الأفريقية، وتردد وقتها أنه كان مقابل تكفّل ليبيا بتمويل مشروع إنشاء الاتحاد الأفريقى. وفى عام 2006 استبدلت الجمعية العامة للأمم المتحدة اللجنة بمجلس حقوق الإنسان الذى حمل معظم تشوهات اللجنة السابقة بحكم أن الدول ذات المصلحة رفضت حزمة الإصلاحات المقترحة لتحسين أداء وفاعلية المجلس الجديد ومن بينها مبدأ محاسبة الدول المسيئة لحقوق الإنسان، ووضع معايير لاختيار الدول أعضاء المجلس البالغ عددهم 47 دولة والذين يتم انتخابهم بالاقتراع السرى فى الجمعية العامة لمدة ثلاث سنوات. ومصر إحدى الدول المنتخبة لعضوية اللجنة عن أفريقيا لفترة تمتد لمنتصف العام المقبل، كما أنها نائب لرئيس اللجنة. والمجلس بتشكيله الحالى وبالفلسفة التى تحكم أعماله هو أقرب ما يكون إلى عصبة للأشقياء منه إلى هيئة تقوم على دعم وتعزيز حقوق الإنسان كما ينص التفويض الموكل إليه. ولأن ما يقرب من نصف أعضاء المجلس من الدول التى لا يمكن أن تحوز البراءة فى سجلّ انتهاكات حقوق الإنسان، بالإضافة إلى غيبة سياسة المحاسبة وتقييم الأداء، وعدم وجود معايير لاختيار أعضاء المجلس، فإن عملية المراجعة الدورية لن تكون بعيدة عن منهج لجنة حقوق الإنسان المنحلة. وتجربة اللجنة السابقة كانت تقوم على ائتلاف المناهضين لحقوق الإنسان للدفاع عن بعضهم البعض، والتكاتف ضد أية قرارات تفضح ممارساتهم المعيبة. هذا التجمع يشبه «شللية» الحكومات الذى تحكمه فلسفة «قف بجانبى اليوم أقف بجانبك غدا» أو بالتعبير المصرى الدارج «شّيلنى وأشيلك». وبذلك فإن دولة كالصين مثلا، رغم إنجازاتها الاقتصادية العملاقة، قد تتحالف مع المجموعة العربية للدفاع عن انتهاكات ليبيا أو السودان مثلا فى مقابل أن تقف معها الدول العربية عندما يحين دورها فى مراجعة تقريرها.. يتم ذلك بين حكومات لدول مستقلة ذات سيادة قبلت بميثاق الأممالمتحدة والإعلان العالمى لحقوق الإنسان، حكومات يفترض أنها جاءت إلى الحكم بانتخابات حرة نزيهة وأنها تمثل الإرادة الحرة لشعوبها. لكن نظام الحكم الشمولى الذى استقرت عليه معظم الدول النامية حديثة الاستقلال فى ستينيات القرن الماضى والذى استنسخته من نموذج المعسكر السوفييتى لا يزال هو النمط السائد للحكم، رغم أن الاتحاد السوفييتى نفسه قد زال من الوجود بكل رموزه منذ عقدين من الزمان. فى أوائل التسعينيات اطلعت على تقرير أعدته منظمة مراقبة حقوق الإنسان (هيومان رايتس ووتش) بعنوان «السجن والتعذيب فى مصر» هالنى ما ورد فيه من حالات اعتقال وتعذيب موثقة بالأسماء والتواريخ، خاصة فى أقسام الشرطة. وتصادف وقتها أن التقيت أحد المسئولين المتصلين بالأمر أكد لى أن الموضوع مبالغ فيه وأنه قد تكون هناك حالات فردية قليلة جدا يتملك فيها بعض صغار الضباط فى أقسام الشرطة شىء من الحماس المفرط أثناء التحقيق فيتجاوزون حدودهم. ولكن الأمر بالتأكيد ليس سياسة منهجية كما يدعى التقرير. كان ذلك قبل أن تنتشر تقارير إخبارية منسوبة لمصادر غربية تدعى أن مصر مع السعودية والأردن والمغرب من الدول التى تقوم باستنطاق المشتبه فى علاقتهم بالإرهاب بعد أحداث 11 سبتمبر لحساب الولاياتالمتحدة باستخدام وسائل غير تقليدية لا يمكن اللجوء إليها فى الأراضى الأمريكية لأن القانون الأمريكى يحرّمها. المفارقة المثيرة أن لمصر سجلّا محترما فى التوقيع على المعاهدات الدولية لحماية حقوق الإنسان، وهى من الدول التى وقعت وصادّقت على «المعاهدة الدولية لمناهضة التعذيب والعقوبات والمعاملات الأخرى القاسية والمهينة واللا إنسانية» التى دخلت حيز التنفيذ منذ عام 1984. هذا بالإضافة إلى أن مصر من الدول التى اشتركت فى مفاوضات صياغة الإعلان العالمى لحقوق الإنسان التى جرت فى عام 1947. أما كيف تفلت مصر ومثيلاتها من الدول من المساءلة الدولية فى هذه الأمور فهو سؤال يتعلق بتشابك المصالح فى العلاقات الدولية، والتحالفات (التربيطات) التى تعقدها الدول الأعضاء فى الأممالمتحدة والأجهزة التابعة لها. كما أن آلية المراجعة الدورية تفترض السعى نحو الكمال فى احترام وتطبيق القيم السامية لحقوق الإنسان، وهو ما لا يمكن أن تدعيه أى دولة من الدول. وهذه الآلية تخلق بذلك تكافؤ عبثى بين ما بلغته السويد مثلا فى السعى نحو الكمال وما تقوم به سريلانكا فى نفس المجال: الأولى تسعى بجهد مسئول لسد الثغرات وتصحيح النقائص، والثانية مشغولة بقتل وتشريد جزء من شعبها تمرد على حكومتها. والاثنتان متساويتان فى عدم بلوغ الكمال فى تحقيق حقوق الإنسان! الحقيقة أن منظومة حقوق الإنسان بمواثيقها وتطبيقاتها ومراجعاتها ما زالت محل شد وجذب بين مختلف الدول والتجمعات الإقليمية. البعض ما زال يتعامل مع حقوق الإنسان على أنها قيمة نسبية تحكمها القيم المحلية والتراثية والتقاليد الاجتماعية والأعراف القبلية والأحكام الدينية، والبعض الآخر يصر على أنها قيمة عالمية المنشأ والمقصد، وأنها لا تتعارض بل هى مستمدة من الشرائع السماوية. ومن أهم خطوط التماس فى هذا الشأن الجدل الدائر حول الحدود الفاصلة بين حقوق السيادة الوطنية التى يقرها القانون الدولى وتتمسك بها الدول، وبين معايير احترام أو انتهاك الحقوق الثابتة للإنسان التى أقرتها المواثيق والمعاهدات الدولية. وقد تم اختبار هذا المبدأ حدود السيادة الوطنية ومسئولية المجتمع الدولى فى أزمات دولية كان أبرزها مؤخرا قيام حلف الناتو فى 1999 بقصف مكثف لجمهورية يوغسلافيا الاتحادية (الصرب) لمدة شهرين تقريبا لإرغام ديكتاتور يوغسلافيا الراحل سلوبودان ميلوسيفتش على إرخاء قبضته العسكرية على إقليم كوسوفو ووقف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الأغلبية الألبانية فى الإقليم، الذى استقل أخيرا. كان القصف بتخطيط وقيادة أمريكية، وبدون تفويض من مجلس الأمن الذى يملك وحده حق الترخيص بعمليات عسكرية دولية مشتركة. ورغم الجدل الكثيف الذى دار حول شرعية مثل هذه العملية فإنها كادت ترسّخ مبدأ مهما عبّر عنه وقتها كوفى عنان الأمين العام السابق للأمم المتحدة ببيان قال فيه إن الدول لا تستطيع بعد الآن أن تتستر وراء مبدأ السيادة الوطنية وهى تمارس الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان ضد شعوبها. وكاد المبدأ يصبح عرفا دوليا مقبولا لولا الغزو الأنجلو أمريكى لأفغانستان لتطهيرها من حكم طالبان، ثم العراق بنية مبيتة لإسقاط نظام صدام حسين فى العراق لا بحثا وراء أسلحة الدمار الشامل، كما اعترف أخيرا تونى بلير رئيس وزراء بريطانيا السابق. من السذاجة انتظار الكثير من مراجعة مجلس الأممالمتحدة لحقوق الإنسان لتقرير مصر، فطبيعة تكوين المجلس وصلاحياته تجعله بلا مخالب ولا أسنان وتتيح للدول التملص من المحاسبة عن المخالفات التى ترتكبها فى حقوق مواطنيها. إن حالة حقوق الإنسان فى العالم تتراجع والحكومات تنتصر على شعوبها والهيئات الدولية لا تملك الكثير من وسائل الردع. وهذا ما دعا أيرين خان، رئيسة منظمة العفو الدولية إلى المطالبة بإرساء عقد عالمى جديد «بسبب وجود فجوة بين قادة الدول فى الاستثمار فى حقوق الإنسان»، مضيفة «إن الأمر لا يتعلق بالاقتصاد وحده، فهناك أزمة فى حقوق الإنسان، والعالم يجلس على قنبلة اجتماعية وسياسية واقتصادية موقوتة».