كنا فى تجمع «مصريون من أجل انتخابات حرة وسليمة» قد اتفقنا جميعا على عدم الدعوة إلى تنظيم استقبال شعبى بالمطار لاستقبال الدكتور البرادعى وترك ذلك لإرادة كل من يريد أن يشارك فى هذا الاستقبال، وفعلا تم الإعلان عن ذلك، وكنت أنا وصديقى جورج إسحق وصديقى النشط السياسى سمير عليش من الراغبين فى الذهاب لاستقبال الرجل فى المطار واتفقنا على ذلك، وأخذت أنا قطار الثامنة صباحا من الإسكندرية وكانت أول مفاجأة سارة لى فى هذا اليوم أن أجد على محطة القطار مجموعة من الشباب يستقلون ذات القطار متوجهين إلى القاهرة للمشاركة فى استقبال الرجل مستبشرين يحدوهم الأمل فى صنع تاريخ جديد لمصر فى المستقبل القريب، وفى القاهرة كانت تنتظرنى سيارة الأستاذ سمير عليش، حيث أخذتنى إلى نادى المعادى حيث يقيم وحيث كان ينتظرنى وجلسنا مع رواد النادى حيث كان حديث الجميع لا يخرج عن نطاق عودة الدكتور البرادعى وماذا يمكن أن يحدث فى الحياة السياسية فى مصر، وكم التفاؤل الكبير الذى كان يحدو الجميع فى التغيير، فى حالة ما إذا استمرت حالة الحراك فى المجتمع المصرى، وبعد أداء فريضة صلاة الجمعة فى مسجد النادى توجهنا معا ومعنا الكاتبة الكبيرة الأستاذة سكينة فؤاد، التى تقيم فى المعادى إلى المطار حيث كان الطريق سهلا خاليا من العقبات الأمنية على عكس ما كان متوقعا وأعلنت عنه بعض الصحف وبعد وصولنا إلى المطار فى الساعة الثانية ظهرا كانت الحشود قد بدأت فى التجمع خارج الصالة وعلمنا من زملائنا أنهم داخل الصالة وفعلا دخلنا فوجدنا كثيراً من رموز مصر المناضلين من أجل التغيير داخلها وكذلك بعض الجمهور والشباب، وكان اللافت للنظر فى كل ما حولنا هو ابتسامة الأمل على وجوههم على عكس ما نشاهده حولنا فى الظروف العادية من تقطيب للجبين واشمئزاز وحزن وألم وتبرم، مما يحيط بنا من مشاكل كان الكل مبتسما رغم ما تجشم من عناء السفر ونفقاته حيث قدم البعض من صعيد مصر والوجه البحرى ومن كل مكان فى مصر، قدم على نفقته الخاصة رغم ضعف الموارد وضعف امكانيات البعض، وقبل الساعة الثالثة موعد وصول الطائرة انتشر خبر تأخرها لمد ساعتين وثلث ساعة نظرا لسوء الأحوال الجوية، وعلى عكس ما كان يحدث دائما فى مثل هذه الظروف من ضيق وتبرم من التأخير، فإن الناس ظلت الابتسامة تعلو وجوههم والأمل يحدوهم رغم أن إمكانيات المطار لا تسمح لكل من يرغب فى أن يأخذ فرصة للجلوس أو تناول قليل من الطعام والشراب فى فترة امتدت حوالى خمس ساعات كانت كفيلة بأن تصيب الشباب فضلا عن الشيوخ بالتعب والملل ولكن شيئا من ذلك لم يحدث بل على العكس كان التأخير فرصة لمزيد من التجمع ووصول من لم يسعفه وقته بالحضور قبل الساعة الثالثة، فازداد الحضور كثافة داخل صالة الاستقبال وخارجها حتى صار عدد الحضور يقدره البعض بما يزيد على الألف وقد يصل إلى ألفين فى نظر البعض، وأيا ما كان هذا العدد قليلاً أو كثيراً فإن الأمر فى نظرى يتعدى ذلك كثيرا لأنه لو أرادت الحكومة حشد عدد مماثل لهذا العدد لأنفقت من أجل ذلك نفقات طائلة قد تصل إلى مئات الآلاف من الجنيهات وهم فى النهاية أناس مأجورون يحملون لافتات لايعرفون معناها ولايعرفون حتى لماذا أحضروا، فقد كان بعض الحفاة العراة يسيرون فى بعض مظاهرات الحزب الوطنى يحملون لافتات تأييد للحزب كتبت بلغة أجنبية، وعندما سئل عن ذلك أحد كبار رجال الحزب الوطنى قال بغير خجل إن الحزب به الغنى والفقير والمتعلم والجاهل، أما الحشود التى كانت تنتظر الدكتور البرادعى فى المطار فهى حشود تلقائية أتت بغير دعوة رغم ما تتوقعه من مضايقات أمنية ومنع وأنفقت على حضورها من مالها الخاص ما هى فى أشد الحاجة إليه لسد ضروريات الحياة وضحت من أجل ذلك بالوقت والمال وخاطرت بمستقبلها، حيث كانت تتوقع الاعتقال ورغم ذلك ضحت بكل ذلك على أمل أن تجنى نتائج هذه التضحية مستقبلاً مشرقاً لها ولأبنائها وأحفادها بعد أن أصابها اليأس والقنوط من أن تجد رغيف عيش بسهولة كما يحدث فى جميع أنحاء العالم أو تشرب مياهاً نقية غير ملوثة أو تأكل طعاما غير مسرطن أو تجد مسكنا ملائما تأوى إليه لاينهار عليها وهى مستسلمة للنوم، أو تعيش فى مكان نظيف لاتخنقه القمامة من كل مكان أو تدخل عندما تضطرها الضرورة إلى قسم شرطة فتجد فيه معاملة حسنة بدلا من التعذيب والإهانة أو تجد قاضيا ينصفها من الظلم الذى يمكن أن يقع عليها مهما كانت مكانة الظالم وسطوته ولا ترتعش يده عندما يكون الظالم طاغية متجبرا يخشى حتى القاضى نفسه من بأسه، سواء كان الحضور يعد بالمئات أو الآلاف فإنه فى نظرى يعد بمئات الآلاف لأن كل واحد من الحاضرين بألف مما يعدون، لأن العبرة ليست بالعدد كما يتصور البعض، فقد كنت أشعر وأنا مع هؤلاء الناس أن لدى كل واحد منهم شحنة هائلة من الرغبة فى التضحية من أجل مستقبل مصر، وأنه مهما كانت العقبات والتضحيات التى ستقابلهم فإنهم على استعداد لتحمل كل ذلك فى سبيل أن يروا بلدهم يتقدم ويأخذ مكانه اللائق به بين بلدان العالم المتحضر. ما حدث فى مطار القاهر يوم الجمعة 19-2-2010 كان رسالة واضحة وصريحة للنظام أن من ينادون بالإصلاح والتغيير ليسوا قلة أو أفرادا يعدون على أصابع اليد كما يحلو للنظام أن يصفهم وأنهم أكثر وأكبر مما يتصورون وأنه إذا كان الحضور ألفاً أو يزيدون فإن وراءهم آلافاً كثيرة لم تستطع الحضور رغم الرغبة، حبستهم عن ذلك موانع كثيرة وأن فى المنازل والشوارع والنوادى والمقاهى والعمل عشرات الآلاف لو وجدوا فرصة للحضور لحضروا وأن الحضور أنفسهم يدخلون فيمن قال فيهم رب العزة سبحانه وتعالى «كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله» لإحساسهم أن الحق معهم وأن المستقبل لهم وأن الله لايضيع أجر من أحسن عملا. بعد أن حطت الطائرة التى تقل الدكتور البرادعى فى مطار القاهرة تعالت الهتافات بحياة مصر ولم تكن هناك هتافات من أى نوع تحمل العداء لأحد أو حتى التأييد لشخص بعينه، ورغم أن الجموع التى احتشدت فى المطار كانت محتشدة من أجل استقبال الدكتور البرادعى فإنه لم تكن هناك هتافات شخصية وهذا ما أعطى إحساسا صادقا لكل من شاهد وحضر أن الناس ترغب فى التغيير الموضوعى وليس التغيير الشخصى، وليس المهم أن يحل الدكتور البرادعى مكان حسنى مبارك، ولكن المهم أن يتم التغيير الموضوعى فى نظام الحكم بإقرار مبدأ تداول السلطة وتعددها، بحيث يمكن لكل من يرى فى نفسه الكفاءة لتولى هذا المنصب أن يرشح نفسه له وأن تكون شروط الترشيح شروطاً منظمة وليست مانعة كما هى الآن فى المادة 76 من الدستور تلك المادة التى تعد عورة فى الدستور المصرى يجب طمسها ومحوها تماما منه، ورغم حبنا وتقديرنا للدكتور البرادعى، فإننا لا نرى مانعاً من أن يوجد إلى جواره مرشحون آخرون جادون قادرون على خوض هذه المعركة حتى يمارس الشعب المصرى حريته فى اختيار من يحكمه. الإصلاح والتغيير إذن هو رائدنا فى المرحلة المقبلة، وأنا أعتقد أن ما شاهدناه فى مطار القاهرة يوم الجمعة الماضى نموذج مشرف لشباب وشيوخ ونساء مصر القادرين على إحداث التغيير، وهذا ما يكذب دعوة من يدعى أن شعب مصر لم تعد فيه حياة ولا قدرة على التغيير وأنه شعب مستسلم لعصى الأمن المركزى ومباحث أمن الدولة، والعجيب الذى كان محل التساؤل منا جميعا أن مظاهر التواجد الأمنى الرسمى أثناء الاستقبال كانت ضعيفة جدا على عكس ما كان متوقعا، فقد خلت ساحات المطار من أى تواجد لسيارات الأمن المركزى المصفحة التى تثير مشاعر الناس فى الشوارع، بل لم يكن بالمطار سوى شرطة المطار العادية، لاشك أنه كان هناك بعض رجال الشرطة فى ملابس مدنية يندسون بين الحاضرين ولكن ذلك لم يكن أمرا محسوسا وكان البعض يتساءل عن سر ذلك وذهبت الآراء فى تحليل ذلك مذاهب شتى. لم يستطع الدكتور البرادعى الخروج وسط هذه الجموع ويقال إن الأمن منعه من الخروج لأسباب لا بد أن يكون قد أقنعه بها، ولم يستطع حتى أحد من النخبة الوصول إليه والالتقاء به وفضل الجميع الانصراف بعد أن اطمأن إلى سلامة الوصول، وقلنا لبعضنا إن الرسالة قد وصلت سواء للرجل الذى جئنا من أجله أو النظام الذى لابد أنه تابع ما يحدث باهتمام أكثر من غيره لأنه يهمه أن يعرف ما حدث حتى يرتب أوراقه فى المستقبل على ضوئه، وانصرفنا جميعا يحدونا الأمل فى التغيير والإصلاح الذى طال انتظاره.