منذ ثلاثة أسابيع، كتبت مذهولاً من عدد ضحايا حوادث المرور فى صفحة حوادث بصحيفة واحدة فى يوم واحد، ولم أكن أعرف أن حادثة من هذا النوع ستحرمنى من لقاء الثلاثاء مع قارئ «المصرى اليوم»، إذ رحل زوج شقيقتى فى واحدة من الحوادث التى نمر عليها عابرين عندما نقرأ عن مصرع كذا فرد من أسرة واحدة، لكننا نلمس معناها تلمس الجمر، عندما تكون العائلة المقصودة عائلتنا. مات زوج شقيقتى مع ابنى أخيه لتستقبل مقبرة واحدة جثامين ثلاثة رجال فى عمر الشباب طحنت سيارتهم تريلا مسرعة على طريق الزقازيقالإسماعيلية الزراعى. وهو طريق تعمل الحكومة على ازدواجه منذ ما يقرب من ثلاثة أرباع عمرى ولا تريد أن تتمه، ليستمر مقبرة لمستخدميه من المصريين مثل كثير من طرق الموت الشهيرة. والشهرة من كونها تنتج موتًا بمعدلات أعلى من غيرها، بينما لا يوجد فى مصر طريق واحد آمن، حتى لم نعد نخرج من بيوتنا، ونعود إليها إلا بمعجزة. عدنا إلى سنوات الحروب، حيث لم تكن هناك عائلة تخلو من شهيد. الآن لا توجد عائلة تخلو من شهيد مرور، يموت فى حرب مجانية محرومًا من مجد شهداء جبهة القتال. نعم، ليست الشهادة على الطرق مثل الشهادة دفاعًا عن الأوطان، وموت الأصحاء المفاجئ فى حادث قاس وموجع أكثر من الموت الذى يسبقه تمهيد المرض، أما تتبع أثر الميت فى الحوادث فلا يخلو من ألم استعادة الفجيعة الذى يضع الأحياء فى موضع مذنبين يعاد عليهم الحساب. وقد كنت خلال الأسبوع الماضى ورجال العائلة فى وضع ذلك المذنب. كان لابد مما ليس منه بد: متابعة محضر الشرطة ورؤية السيارة المهشمة ومتابعة تحقيقات النيابة، وكل هذا يتطلب السير على الطريق نفسه، بكل ما يعنيه ذلك من استعادة للحادث وخوف على حياة من يتابعون موت الميت. كان من المحتم سلوك طريق الموت نفسه للوصول إلى مدينة أبوحماد. على الطريق يطير السائقون طيرًا، ويتجاوزون بعضهم البعض بإجرام لا يجد ما يردعه، لا كاميرات ولا رجال مرور ولا تخطيطات على الأرض ولا أى شىء كان بوسعه أن يمنع الخوف من المصادفات السيئة التى صارت تحدث كثيرًا، عندما يموت المعزون فى طريقهم للعزاء أو يموت من يخرج لزيارة مريض، أو من يسعى وراء حق ضحية من ضحايا الحرب العبثية. على أى حال لم أمت ولم يمت أحد ممن رافقتهم للبحث وراء القضية. ادخرنا الموت لمصادفات عمياء أخرى لا نعلمها. وصلنا إلى مدينة أبوحماد التى وقع الحادث فى نطاقها. وهى مدينة تجاوزًا، ليس ذمًا فيها أو فى أهلها، بل توصيف واقع يندرج فى مسؤولية نظام فاشل يدعى أنه يحسن صنعًا. كل مدننا لها هذا المظهر البائس من العشوائية وضيق الشوارع وكميات من التراب والغبار المغلفة لسماواتها الواطئة الكئيبة. لا توجد لافتة واحدة تقول إن هذه هى أبوحماد وليست التل الكبير مثلاً، وكأن كل من يمرون من هنا لابد أن يعرفوا طريق الآلام ودروبه ومدنه المتشابهة. توجد فقط لافتات لمرشح بقُصة مسبسبة ولافتات لآخر حليق وثالث أصلع أو معمم، وجميع اللافتات تبلضم وتتفاصح كما يتفاصح أطفال الحزب الوطنى، بينما الأرض تحت اللافتة تكذبهم والسماء فوقها غاضبة. وإذا كانت المدينة كلها بلا لافتة تشهرها وتعلن عن وجودها، فمن الحماقة أن نتوقع وجود لافتات فرعية تشير إلى مركز الشرطة أو المحكمة. وكان لابد أن نتوقف بين خطوة وأخرى للسؤال عن المحكمة، بما يضعنا ويضع من نسأله فى دائرة خطر الاصطدام مع مركبة أخرى، ليست سيارات وإنما هوام تطير فى كل اتجاه بعشوائية مفرطة، تفاديًا لتجعيدة فى الأسفلت أو حفرة أو كومة تراب، أو تريلا ظالمة ينفض نفيرها المدينة بكاملها. سيرك حقيقى من أصوات آلات التنبيه وأنواع الآليات المتشابكة من جرارات وسيارات نقل وتكاتك وموتوسيكلات وكارو وميكروباصات، خضناه بعزيمة الألم والرغبة فى تحقيق شىء من القصاص للقتلى، حتى وصلنا إلى مبنى المحكمة شديد التداعى والاهتراء والقذارة بما لا يتناسب مع هيبة القضاء، ولا يصلح عنوانًا للثقة فى كفاءة مؤسسة العدالة. ابنة شقيقتى المتخرجة فى كلية الحقوق تمنت علينا أن نطلب تحليل مخدرات للجانى، على اعتبار أن أثر المخدرات يبقى فى الدم شهرًا. وكان علينا أن نرضى الفتاة التى تعجز عن النطق منذ الحادث، لكننا فوجئنا بأننا نطلب طلبًا خياليًا. من الذى سيستدعى السائق المفرج عنه؟ ومتى؟ وما ضرورة الإجراء أصلاً، فالقتل الخطأ هو قتل خطأ، والظرف مشدد فى حالة وجود ثلاث وفيات، وصحبتكم السلامة فى طريق العودة، حتى لا تبحثوا عمن يقلب فى أضابير موتكم. صحبتنا السلامة، وعدت هذه المرة لأسأل من يعرف إن كان هناك بلد فى العالم تزيد فيه عقوبة الدخول فى الاتجاه الخطأ إلى حارة بلا علامات وبطيئة الحركة على عقوبة القتل. وليدلنى أحد من السفلة إن كان رأى بلدًا ديمقراطيًا أو ديكتاتوريًا تداعت مرافقه وخدمات شوارعه وانضباط طرقه إلى الحد الذى وصلت إليه الطرق المصرية. لقد تجاوز السكوت على هذا الحصاد اليومى للأرواح مرحلة الإهمال والفشل إلى مرحلة القتل العمد والحرب المعلنة على شعب لم يرتكب ذنبًا إلا السكات!