ثار فى الآونة الأخيرة نقاش بين مؤيد ومعارض حول حق الكاتب فى الإفصاح عن رأيه فى مرشحى الرئاسة، وهل يتعارض إعلانه لموقفه المؤيد لمرشح بعينه أو معارضته لمرشح آخر مع القواعد المهنية للصحافة؟ وذلك على أثر نشر «المصرى اليوم» مقالتين لكل من الدكتور حسن نافعة والأستاذ حمدى قنديل يعلنان فيهما انحياز كل منهما إلى مرشح بعينه فى انتخابات الرئاسة القادمة، فما هى الحدود الفاصلة بين موقف الكاتب والمهنية الصحفية؟ إن كبار الكتاب الصحفيين يوصفون فى العالم بأنهم قادة الرأى Opinion leaders، ومن ثم فإن مهمة كل منهم فى أوقات الاختيار الكبرى هى أن يوجه الرأى العام إلى ما يرى من وجهة نظره أنه فى صالح المجتمع، فإذا كانت البلاد تمر بانتخابات رئاسية ووجد الكاتب أن من واجبه أن يبصر القارئ بحقائق المشهد فإنه ما لم يفصح عمن يرى أنه الأصلح فإن حديثه للقارئ تغيب عنه الشفافية ويشوبه بعض الخداع، لأن ادعاء الكاتب الحيادية بينما هو صاحب موقف ورأى يحجم عن إعلانه إنما يتعارض مع مصداقيته.. إننا نتابع قادة الرأى فى الصحافة والإعلام كى نطلع على مواقفهم، والمقارنة بين حجج كل منهم قد تساعدنا فى تكوين رأينا الخاص، لذا فإنى أذهب للقول بأن مهمة الكاتب، بل واجبه، أن يفصح عن رأيه وأن يعلن مرشحه، موضحاً أسبابه فى هذا الاختيار، وفى ذلك التزام بالمهنية والأمانة الصحفية. طبعاً هذا يختلف عن موقف الصحف وأجهزة الإعلام التى قد يرى البعض أن يكون موقف القومى منها على الأقل محايداً، دون أن يحجر ذلك على موقف كل كاتب فى الصحيفة أو ضيف فى البرنامج من أن يعلن عن موقفه، وإن كنا نجد فى المجتمعات الديمقراطية التى ترسخت فيها مثل هذه الممارسات أن الكثير من الصحف الكبرى قد يكون لها هى الأخرى مواقف معلنة من المرشحين، كما يحدث فى الولاياتالمتحدة، أو كما حدث أخيراً فى فرنسا حين وجدنا صحيفة «لوفيجارو» اليمينية تنحاز صراحة إلى ساركوزى، ووجدنا صحيفة «ليبراسيون» اليسارية تعلن انحيازها لفرانسوا هولاند، بينما اتخذت «لوموند» موقفاً حيادياً، لكن ذلك كله لم يمنع أن تقوم أى من تلك الصحف الثلاث بنشر مقالات يعلن فيها أصحابها انحيازهم لمرشح أو آخر فى الانتخابات. على أن الفصل المهنى بين حيادية الجريدة وموقف كتابها هو الأفضل لنا الآن فى ظل ما تمر به الصحافة من فترة انتقالية، اختلت فيها بعض الموازين الصحفية، على أن هذه الحيادية تصبح أكثر إلحاحاً فى حالة التليفزيون التابع للدولة، الذى لا ينبغى أن ينحاز لمرشح بعينه، وإنما واجبه أن يتيح الفرصة كاملة لجميع المرشحين ولجميع الآراء المؤيدة أو المعارضة لهم. أقول ذلك بمناسبة اتصال جاءنى من أستاذة جامعية معروفة بمساهمتها فى الحياة العامة على أثر نشر مقال «مصر تبحث عن رئيس» للدكتور حسن نافعة فى الأسبوع الماضى، أعلن فيه تأييده الصريح للدكتور عبدالمنعم أبوالفتوح مرشحاً للرئاسة، حيث انتقدت السيدة الفاضلة ذلك الموقف بشدة، كما اتصل بى مرشح رئاسى يقول إن فى المقال انحيازاً غير مهنى من الجريدة لصالح مرشح بعينه، فى الوقت نفسه يبدو أن أعداداً كبيرة من القراء كتبت للدكتور نافعة حول الموضوع نفسه، كما أوضح بنفسه فى مقالات تالية، معترضة على اتخاذه هذا الموقف الصريح. ومن الغريب أنه فى اليوم التالى مباشرة لمقال الدكتور نافعة كتب الأستاذ حمدى قنديل فى الجريدة نفسها مقالاً يفصح فيه عنوانه أنه سينتخب حمدين صباحى، لكن أحداً لم يعترض على حد علمى على المقال، أو على الأقل فإن اختيار حمدى قنديل لحمدين صباحى لم يثر الضجة التى أثارها اختيار حسن نافعة لعبدالمنعم أبوالفتوح، هل لأن اختيار الأول ذى الخلفية الناصرية كان متوقعاً، بينما اختيار أستاذ الجامعة الليبرالى المستنير جاء مناقضاً لتوقعات القراء؟ أياً ما كانت الأسباب فإن ذلك لا يمس فى رأيى جوهر الموضوع، وهو حق الكاتب فى الإعلان عن رأيه، بل واجبه فى أن يظهر موقفه الحقيقى فى قضية المرشحين للرئاسة كما فى أى قضية أخرى تمر بها البلاد، فالكاتب فى النهاية هو صاحب رأى وصاحب موقف، وإذا أحجم عن إبداء الرأى أو عجز عن إعلان الموقف فقد أخل بواجبه تجاه القارئ. هذا من ناحية المبدأ، أما فيما يتعلق بمقال «مصر تبحث عن رئيس» بالتحديد، فإنى رغم إقرارى بحق كاتبه فى الإعلان عن رأيه لم أرتح للمنطق الذى قام عليه المقال لما بدا لى من تناقضات أو مغالطات تلقى بظلال على صحة الاختيار الذى خلص إليه بتفضيل عبدالمنعم أبوالفتوح على غيره من المرشحين، وربما كان هذا أحد أسباب اعتراض بعض القراء على المقال، الذين تفضل الدكتور نافعة بعرض بعض آرائهم فى مقالاته التالية. وبداية أقول إننى أتفق تماماً مع المقدمات التى ساقها الدكتور حسن نافعة فى مقاله بأن «مصر تبدو الآن فى أمس الحاجة إلى شخصية قوية قادرة على لم الشمل والخروج بالبلاد من حالة استقطاب سياسى وفكرى حاد تعيشها فى المرحلة الراهنة»، وإن كنت لا أرى أن هذه المقدمة تؤدى إلى النتيجة التى توصل إليها من أن مثل هذه الشخصية القوية هى عبدالمنعم أبوالفتوح، الذى بعيداً عن كونه ليس أكثر المرشحين خبرة بالعمل السياسى فهو فى نهاية المطاف ينتمى فكرياً إلى أحد أطراف هذا الاستقطاب الحاد الذى وصفه الدكتور نافعة، لذلك فإن انتخابه هو تغليب لفريق بعينه فى هذا الاستقطاب، حيث سيسيطر الاتجاه الدينى بذلك على البرلمان والوزارة التى وعد الدكتور أبوالفتوح بأنه سيجعل تشكيلها للأغلبية ورئاسة الجمهورية أيضاً، أو أن انتخابه سيقذف بالبلاد فى أتون معركة التنافس الشرسة الدائرة الآن بين الدكتور أبوالفتوح وقيادات جماعة الإخوان والحزب التابع لها، وهى معركة لا ناقة للشعب فيها ولا جمل، وقد تحيد بنا عن المعركة الحقيقية التى هى معركة بناء الجمهورية الثانية على قواعد الدولة المدنية التى هى ليست بعسكرية ولا دينية، والتى تقوم على الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، وهى المبادئ التى نادت بها ثورة 25 يناير التى حاول البعض اختطافها بهتاف «إسلامية»، لذلك فأغلب الظن أن انتخاب أحد أقطاب الدولة الإسلامية أو دولة الخلافة أو غير ذلك من التعبيرات التى تتناقض مع الدولة الديمقراطية الحديثة التى نص عليها الأزهر الشريف فى وثائقه هو تأجيج لصراع الاستقطاب الحاد الذى تشهده الآن البلاد وليس حلاً له. ثم تأتى بعد ذلك شروط أربعة وضعها الدكتور حسن نافعة لاختيار الرئيس القادم، وهى كلها- فى رأيى- لا تنطبق على الدكتور عبدالمنعم أبوالفتوح من قريب أو بعيد، بل هى تنطبق أكثر ما تنطبق على السيد عمرو موسى. فأول هذه الشروط هو أن يكون «شخصية مستقلة على مسافة واحدة من مختلف التيارات، ليس منخرطاً فى تنظيم حزبى منغلق فكرياً»، فهل يمكن أن يوصف أحد أقطاب التيار الإسلامى بأنه مستقل فكرياً أو بأنه على مسافة واحدة من جميع التيارات السياسية؟ وهل يمكن أن يعتبر مؤسس الجماعة الإسلامية والعضو القيادى فى جماعة الإخوان طوال أربعين عاماً، والنائب السابق للمرشد، غير منخرط فى تنظيم حزبى منغلق فكرياً لمجرد أن خلافاً إدارياً مع قيادات هذا التنظيم أدى لفصله؟ وهل استتبع هذا الفصل تخليه عن فكر الجماعة أو تسبب فى حياده الفكرى المفاجئ إزاء مختلف التيارات السياسية؟ ثم يأتى الشرط الثانى وهو ألا يكون المرشح قد انخرط فى النظام القديم أو ارتبط بشبكة مصالحه أو انغمس فى ممارسات تتسم بالفساد وأن يكون على أعلى درجة من الاستقامة والنزاهة والصدق، وهنا يجب الاعتراف بأن هذا الشرط ينطبق بالفعل على عبدالمنعم أبوالفتوح، لكنه ينطبق على كثيرين من المرشحين، بل أقول إنه ينطبق بشكل أكبر على المرشح عمرو موسى، فإذا كان لا فضل لعبدالمنعم أبوالفتوح فى أنه لم ينغمس فى ممارسات الفساد لنظام لم يكن مرتبطاً به أصلاً، فإنها شهادة أكبر لعمرو موسى لأنه خدم البلاد فى ظل ذلك النظام دون أن تناله أى ذرة من فساده، ثم إنه لم يكن عضواً أصلاً فى آلة الفساد السياسى التى عرفت باسم الحزب الوطنى الديمقراطى، كما كان على النقيض من سياسة مبارك تجاه إسرائيل، وهو ما أدى فى النهاية إلى إبعاده عن السياسة الخارجية المصرية. إن استقامة عمرو موسى فى ظل النظام السابق لهى شهادة له وليست عليه ثم هى تميزه عمن لم يعمل مع النظام السابق، فأهل الطب يعرفون - ومنهم الدكتور أبوالفتوح - أن الجسد الذى خبر المرض بالتطعيم ولم تصبه العدوى هو المحصن للأبد ضد الإصابة بالمرض بعد ذلك. ثم يأتى شرطان متصلان ببعضهما البعض، أولهما أن يكون المرشح على دراية بالخريطة السياسية والحزبية ولديه برنامج ورؤية يسمحان بإخراج مصر من مشكلاتها الراهنة، والثانى ألا يكون له موقف عدائى من التيار الإسلامى وأن يكون قادراً على التعامل معه من موقف الندية، وهذا الشرط الأخير وإن كنت أقبله فى عمومه إلا أنى لا أفهم لماذا نختص به التيار الإسلامى دون غيره؟ هل مقبول أن يكون للمرشح موقف عدائى من التيار المدنى مثلاً أو من التيار الاشتراكى أو القومى؟ إنى أرى من الأفضل ألا يكون المرشح معروفاً بمواقفه العدائية من التيارات السياسية الفاعلة فى المجتمع برمتها وليس التيار الإسلامى وحده، حتى يتمكن مما سماه الدكتور نافعة فى مقاله «لم الشمل والخروج بالبلاد من حالة استقطاب سياسى وفكرى حاد»، فهل الدكتور أبوالفتوح بما شهدناه أخيراً من عداء خفى بينه وبين بعض قيادات الإخوان، ينذر بتصاعد قادم كلما احتدمت المعركة بينه وبين مرشح الجماعة المنافس- هو من يمكن أن يوصف بأنه ليس له موقف عدائى من التيار الإسلامى؟ ومع ذلك فإنى أؤكد للصديق العزيز حسن نافعة وللقارئ الكريم أن القارئ إذا اختار السيد عمرو موسى نتيجة الشروط التى وضعها الدكتور نافعة بدلاً من أن يختار مرشح الدكتور نافعة فإن ذلك لا يقلقنى على الإطلاق! [email protected]