كان عم ميخائيل نجاراً، ولكن هذه لم تكن صفته الرئيسية، كان عم ميخائيل بمثابة أمين سر ومستودع الأسرار لعدد من أعيان ومواطنى مجموعة قرى من قرى المنوفية القريبة من بعضها إلى حد توشك مساكن هذه القرية أن تتصل بمساكن القرية الأخرى، كان من بلد اسمه سلامون قبلى -واسم سلامون موجود فى الصعيد أيضاً، ولست أدرى لماذا ينتشر هذا الاسم، أغلب الظن أن له أصولاً فرعونية، - كان عم ميخائيل، كما قلتُ نجاراً، ولكنه كان قبل ذلك، وأهم من ذلك، هو الذى يلجأ إليه أعيان تلك القرى فى حفظ ما قد يكون لديهم من مستندات لها أهمية خاصة، مستند ملكية أو إيصال دين أو عقد شراء أرض أو قائمة أثاث زوجة أو غير ذلك من أوراق. كان عم ميخائيل رجلاً أميناً ودقيقاً وكان محبوباً من الجميع، وإن لم يمنع ذلك من أن يناديه البعض على سبيل المزاح «يا ميخائيل يا نصرانى». ومن المصادفات أن عم ميخائيل ينتمى إلى ذات القرية التى ينتمى إليها الصديق الأستاذ الدكتور الأحمدى أبوالنور، وزير الأوقاف الأسبق. المهم أننى كتبت مقالاً من عدة عقود عن عم ميخائيل، وكان هذا المقال هو السبب المباشر الذى لفت نظر قداسة البابا شنودة الثالث نحوى، وكان ذلك بداية مودة عميقة وتقدير كبير وعميق منى لقداسته. البابا شنودة هو صاحب العبارة الرائعة التى جعلتها يوماً عنواناً لمقال من مقالاتى، والتى مافتئت أرددها بين الحين والحين، قداسته هو القائل «إن مصر ليست وطناً نعيش فيه وإنما هى وطن يعيش فينا»، أظن أنه لا أحد يختلف على روعة العبارة وعمق دلالتها على الانتماء العميق لتراب هذا البلد. وباعتبارى رجلاً مسلماً فأنا أقف من الكنائس المسيحية على مسافة واحدة، ولكن يكمن الفارق فى مدى قوة العلاقة الشخصية مع بعض رموز هذه الكنائس. قوة علاقتى بقداسة البابا شنودة واحترامى وتقديرى الشديدان لقداسته أمر معلوم للجميع من المسلمين والمسيحيين، وأنا أعتز بذلك اعتزازاً شديداً. علاقتى بالدكتور يوحنا قلتة، ممثل الكنيسة الكاثوليكية، هى علاقة مفكر بمفكر، أنا أقرأ للدكتور يوحنا قلته وأفيد من قراءة مقالاته ودراساته وأشارك معه أحياناً فى بعض الندوات وأسعد بذلك. أما فى إطار الكنيسة الإنجيلية فإن علاقتى بها متعددة الجوانب، فقد أسعدنى الحظ أن أكون أستاذاً - وصديقاً بعد ذلك - للقس صفوت البياضى عندما انتسب إلى كلية الحقوق جامعة القاهرة، كذلك فإن علاقتى بالدكتور إكرام لمعى هى علاقة صداقة ومحبة، ذلك فضلاً عما للهيئة الإنجيلية من نشاط اجتماعى أسعدنى وأفادنى أن أشارك فى بعضه. وقد أثارت هذه الخواطر كلها فى ذهنى الزيارتان اللتان قام بهما الدكتور محمد بديع لقداسة البابا شنودة ليطمئن على صحته والزيارة الثانية التى قام بها ومعه المرشد العام السابق الأستاذ مهدى عاكف وعدد من القيادات الإخوانية للكنيسة الإنجيلية، رداً على زيارة قام بها القس صفوت البياضى للمرشد العام فى مقر الجماعة بالمقطم. وواضح أن هذه الزيارة الثانية كانت زيارة مثمرة، وأسفرت عن نتائج تصب فى بناء الوحدة الوطنية، وتؤكد البُعد الحضارى العميق للشخصية المصرية، وتظهر مدى سماحة الإسلام ومدى احترامه وتوقيره لأصحاب الديانات الأخرى. وكم هى جميلة وبسيطة العبارة التى قالها الدكتور محمد بديع فى ذلك اللقاء من أن المسلمين والأقباط أصبحوا جميعاً «اتحاد ملاك مصر» وأن عبء بناء مصر الجديدة ثقيل لا يقدر فريق واحد على حمله وأنه يقتضى تضافر جميع أبناء مصر. ورحب الدكتور البياضى بالزيارة، وقال إنها مناسبة لبدء حوار بناء بين كل أبناء الأديان السماوية، موضحاً أن الحوار هو الذى يقرب المسافات ويوحد القلوب، وهذا صحيح، علينا أن نتعلم جميعاً ثقافة الحوار فإنها المقدمة الضرورية لكى يفهم أحدنا الآخر. واتفق الجانبان على إنشاء لجنتين مشتركتين بين الإخوان والكنيسة الإنجيلية، إحداهما للتفكير العلمى والحوار، والأخرى للخدمات الاجتماعية، وكلتا الجماعتين -الإخوان والإنجيليون- لهما باع طويل فى مجال الخدمات التى يحتاج إليها المواطن العادى من غير المسيسين أو المنتمين إلى تيار معين. أسعدتنى جداً هاتان الزيارتان لما تحملانه من معانى المواطنة والانتماء لهذا البلد الأمين ولما تعبران عنه من روح التسامح والمودة والإخاء. رعى الله مصر وألف بين قلوب أبنائها، فمصر تحتاج فى هذه الظروف العصيبة إلى تضافر كل الجهود من أجل إعادة البناء. رعى الله مصر ووفق أبناءها لما فيه خيرهم وخيرها. والله المستعان