بالرغم من أن حججاً كثيرة تم تداولها فى مصر بشأن تشكيل الجمعية التأسيسية لوضع دستور البلاد الجديد، فيما يخص ضرورة مشاركة أعضاء البرلمان فيها، تبدو صحيحة ووجيهة، إلا أن المشهد الذى تم به إقرار هذه المشاركة فى الاجتماع المشترك لمجلسى الشعب والشورى لا يبدو باعثاً على التفاؤل، بل يقود إلى مشاعر تشاؤم حقيقية وعميقة. فبعد أن روج حزب الأكثرية، حزب الحرية والعدالة، أنه يساند توزيع عضوية الجمعية التأسيسية بين أعضاء البرلمان بنسبة 40% ومن خارجه بنسبة 60% بل طرح ذلك رسمياً فى الاجتماع الأول المشترك لمجلسى البرلمان، فوجئ الجميع بالحزب يغير من رأيه عشية الجلسة الثانية التى تم حسم الأمر فيها بتبنيه فكرة المناصفة: نسبة 50% من داخل البرلمان ومثلها من خارجه. وقد شعر كثيرون بعد هذا التعديل السريع والمفاجئ بأن حزب الأكثرية لم يكن صادقاً منذ البداية فى طرحه الأول وأنه كان يناور به فى حين أن نيته الحقيقية كانت تتجه للوصول إلى نسبة ال50% لأعضاء البرلمان فى الجمعية التأسيسية. وقد بدا واضحاً فى التصويت على هذه النسبة الجديدة أن الأغلبية الإسلامية فى مجلسى البرلمان التى تتشكل من الحرية والعدالة وحزب النور وبقية الأحزاب السلفية الأصغر هى التى حسمت فى النهاية وباكتساح كبير جميع الرؤى والاقتراحات الأخرى لصالح اقتراح المناصفة بين البرلمان وخارجه. والحقيقة أن البدء بحسم الأغلبية الكاسحة فى أول خطوة إجرائية لوضع دستور البلاد الجديد لا تنبئ بخير كثير، فمن الواضح أن سلاح الأغلبية سوف يظل مشهراً طوال فترة تشكيل الجمعية التأسيسية ثم وضع الدستور نفسه. ولم يقف الأمر عند ذلك فقد قرر البرلمان بعد إقراره نسبة الخمسين فى المائة للبرلمان ولمن هم بخارجه، قرر فى جلسته الثانية المشتركة يوم السبت الماضى أن يكون اختيار أعضاء الجمعية التأسيسية من بين أعضاء البرلمان بالنسبة العددية لكل من أعضاء مجلسى الشعب والشورى المنتخبين، وهو أمر لا مشكلة فيه ويبدو منطقياً. أما غير المنطقى والخطر فى نفس الوقت فهو أن قاعدة الاختيار لأعضاء البرلمان الذين سينضمون للجمعية التأسيسية ستكون هى الانتخاب بأعلى الأصوات من بين المرشحين لها سواء من تقدموا بأنفسهم أو الذين سيرشحهم زملاؤهم. أى أننا عدنا مرة أخرى إلى نقطة الصفر نفسها وهى تحكيم الأغلبية العددية فى اختيار أعضاء البرلمان فى الجمعية التأسيسية. فلم يرد فى نص قرارات الاجتماع المشترك بخصوص الاختيار أى معيار سياسى أو حزبى يقوم على ضرورة تمثيل القوى والألوان السياسية كافة الممثلة فى البرلمان بداخل الجمعية التأسيسية، وكأن مهمتها هى وضع دستور بالأغلبية وليس بالتوافق وعبر تمثيل الجميع. ولاشك أن البعض قد يرى أن مثل هذا التمثيل سوف يكون محلاً لمشاورات ومفاوضات خلف الكواليس قبل إجراء الانتخاب على عضوية الجمعية من بين أعضاء البرلمان، وهذا مع افتراض صحة حدوثه لن يكون سوى تطوع غير ملزم لأصحاب الأغلبية البرلمانية من الإسلاميين يمكن لهم فى أى لحظة التخلى عنه والعودة لقاعدة الحسم عبر الأغلبية العددية. وليس هناك من شك فى أن إهمال وتجاهل المعايير السياسية والحزبية فى انتخاب ممثلى البرلمان فى الجمعية التأسيسية وتركه فقط للتصويت ولما تراه الأغلبية الإسلامية سوف يهدد جدياً المعنى الرئيسى للجمعية التأسيسية التى من المفترض أن تمثل أطياف الأمة كافة وتقوم على التوافق وليس الأغلبية العددية. ولا شك أيضاً أن غياب هذا المعنى المركزى وشعور بعض القوى السياسية والحزبية الممثلة فى البرلمان بأن مشاركتها فى الجمعية التأسيسية باتت رهينة للأغلبية العددية، قد يدفع بعضها أو معظمها إلى مقاطعة الاشتراك فيها، مما قد يدفع البلاد إلى أزمة دستورية حقيقية ومعقدة يمكن لها أن تتفاعل مع الأزمات الأخرى القائمة حالياً لكى تعطل التحول السياسى فى البلاد بل قد توقفه تماماً. ومن الواضح أن هذا الاحتمال قد دخل فى طور الواقعية، لأن هناك أحزاباً وقوى سياسية ممثلة فى البرلمان بدأت بالفعل مشاورات فيما بينها لاتخاذ قرار بالمقاطعة. ولم يقف الأمر عند ذلك فقد أتى قرار الاجتماع المشترك لمجلسى البرلمان فيما يخص ال50% الأخرى المخصصة لمن هم خارج البرلمان لكى يزيد من التشاؤم والشعور بأننا مقبلون على أزمة كبيرة فيما يخص وضع الدستور الجديد للبلاد. فمن ناحية فتح القرار الباب للترشيحات لمن أطلق عليها «الهيئات» وللأفراد المنتمين إليها أو الشخصيات العامة للتقدم بترشيحاتهم للبرلمان فى خلال خمسة أيام تنتهى يوم الخميس المقبل. ولم يحدد البرلمان فى قراره طبيعة هذه الهيئات، وهل هى هيئات منتخبة مثل مجالس النقابات والاتحادات المهنية والعمالية والفلاحية، أم رسمية مثل القضاء والشرطة والجيش، أم علمية مثل الجامعات ومراكز البحوث، أم مدنية مثل منظمات وجمعيات المجتمع الأهلى، فضلاً عن غموض مفهوم الشخصيات العامة الوارد فى القرار. ولاشك أن عدم تحديد هذه الهيئات بدقة سوف يؤدى من ناحية إلى تكاثر الترشيحات بصورة مبالغ فيها من بعض الجهات، ومن ناحية أخرى إلى غياب أى ترشيحات من جهات أخرى قد ترى فى هذا الغموض ميلاً إلى استبعادها وعلى رأسها المؤسسات ذات الطابع الرسمى مثل الجيش والقضاء والشرطة. ولم يقف الغموض المقصود عند ذلك، فلم يحدد القرار أى نسب واضحة لتمثيل هذه الهيئات والشخصيات العامة فى الجمعية التأسيسية، وترك الأمر برمته للبرلمان. وليس ذلك فقط، بل إن قرار البرلمان قد ترك لهذه الهيئات المجهولة الهوية والتعريف أن ترشح من تراه ممثلاً لها للبرلمان لكى يتخذ بشأنه القرار النهائى، وهو ما يحمل بداخله خطراً حقيقياً على التمثيل السياسى والحزبى لقوى وأطياف المجتمع. فمن المعروف أن التمثيل الإسلامى وبخاصة الإخوانى فى كثير من الهيئات النقابية والجمعيات الأهلية كثيف إلى درجة تهدد بأن تقتصر ترشيحاتها على من هم منتمون لجماعة الإخوان، مما يضيف مزيداً من الأغلبية الإسلامية فى الجمعية التأسيسية دون وجود قواعد عامة ومجردة لهذه الزيادة. وتأتى فى النهاية الطامة الكبرى التى تهدد بالفعل إمكانية تشكيل جمعية تأسيسية للدستور متوازنة ومتوافق حولها، وهى ترك القرار الأخير فى اختيار ال50% من أعضائها من خارج البرلمان لتصويت هذا البرلمان نفسه على الأسماء التى ستقترحها الهيئات الغامضة المجهولة. إن ما تم إقراره فى البرلمان بشأن معايير تشكيل الجمعية التأسيسية للدستور يمثل نكسة كبيرة وخطيرة على تطور البلاد نحو نظام سياسى جديد ومستقر ومتوافق حوله. فنحن اليوم أمام حسم بالأغلبية العددية والتصويت لتشكيل الجمعية وهو ما سوف يتكرر على الأرجح فيما يخص مضمون الدستور نفسه الذى يبدو واضحاً أن الأغلبية الإسلامية الحالية فى البرلمان، والمتوقعة فى الجمعية التأسيسية، التى لن تقل عن 65%، سوف تتجه لفرض رؤيتها لمواده ومبادئه الرئيسية عبر التصويت، وهو ما يتعارض جذرياً مع معنى الدستور ذاته، وهو أيضاً ما يمكن له أن يدخل البلاد فى أزمة ستكون هى الأخطر من نوعها منذ نجاح الثورة قد تكون تداعياتها على البلاد وتطورها واستقرارها أكبر بكثير مما يتوقع الجميع. [email protected]