تعرف الحكومات التى تعاقبت على هذا البلد، من أول الحكومة التى كانت قائمة، فى يناير 1977، عندما قامت المظاهرات الشهيرة، إلى حكومة أحمد نظيف، أنها شاركت وتشارك فى جريمة من جرائم إهدار المال العام! والإهدار هنا له صورة واحدة، هى أن الحكومة تقول إنها تدعم الفقير، فى حين أنها تعرف جيداً، أنها تدعم القادر غير المحتاج! وإلا.. فما معنى أن يأتى كل صاحب سيارة فارهة، سواء كانت مرسيدس أو غيرها، إلى أى محطة بنزين، فيحصل على حاجته، ويأتى من ورائه مباشرة صاحب تاكسى، أو ميكروباص، فيحصل على الوقود نفسه، بالسعر ذاته؟! هل هناك معنى لمشهد من هذا النوع، يتكرر فى اليوم الواحد آلاف، بل ملايين المرات، إلا أن كل صاحب سيارة، من هذه النوعية، يحصل فى كل مرة يتزود فيها بالوقود، على صدقة إجبارية من الدولة، قيمتها جنيهان ونصف الجنيه، عن كل لتر يضعه فى خزان سيارته، لا لشىء إلا لأن اللتر من البنزين 95 مثلاً يباع ب275 قرشاً، بينما تكلفته الحقيقية فى حدود خمسة جنيهات! وما يحدث على هذا المستوى يحدث على مستويات أخرى كثيرة، وليس البنزين هنا، إلا مجرد مثال متواضع، ليبقى مثال رغيف العيش مثلاً آخر فادحاً، يتكرر فى اليوم الواحد ثلاث مرات! طبعاً.. عندما يحصل أى قادر على اللتر بهذا السعر، فإنه يشعر بينه وبين نفسه، بذنب لم يرتكبه، ويتمنى إذا كان إنساناً ذا ضمير، لو أنه اشترى اللتر بسعره الحقيقى، ليرتد الفارق فى خزانة الدولة، تدعم به الفقراء والبسطاء.. وما أكثرهم فى البلد!.. ولكن لا يمكن لكل قادر أن ينظم الحياة بنفسه على الصورة التى يتمناها، وإنما لابد من رؤية تضعها الحكومة الجالسة فى مقاعد الحكم، بحيث يمكنها بها أن تأخذ من الغنى، وتعود على الفقير، فى شتى الخدمات، خصوصاً الصحة والتعليم! وحين اتخذ السادات قراراته الشهيرة فى عام 77، لإصلاح هذه الأحوال المائلة، كانت خطوته صحيحة، ولكن توقيتها ربما لم يكن دقيقاً، كما أنها لم تكن مدروسة بالشكل الكافى! وحين ارتد عن القرارات، كان وقتها يملك هذا الترف، الذى لا نملكه الآن، وبالتالى فإن كل تأخير عن إصلاح أوضاع خاطئة، كهذه، إنما هو على حساب كل البسطاء فى البلد، ومن جيوبهم، لأنهم وحدهم هم الأحق بأن يتوجه إليهم الدعم، لا الأثرياء! ولابد أن بقاء الوضع، على حالته هذه، يؤدى، كما قلت وأقول، إلى أن نعيش فى ظل اقتصاد الوهم، لا اقتصاد السوق، ففى الأول تباع السلعة بسعر أقل، وتتكلف سعراً آخر أعلى، وفى الثانى تباع السلعة بتكلفتها الحقيقية، ثم يجرى فى الحالة الثانية دعم الذين لا يستطيعون استهلاكها بسعر التكلفة، وحدهم، لا أن يتم تخصيص الدعم لهم كاملاً، ثم يحصل عليه غيرهم، على الملأ، وعلناً، ودون خجل! نريد أن ننتقل من الوهم إلى الحقيقة، على سائر المستويات، وليس فى الاقتصاد وحده، من أول البرلمان الوهمى، مروراً بالتعليم الوهمى، وانتهاء بالعلاج الوهمى لغير القادرين! ولا نريد فى كل مرة، أن يقال لنا، إننا لن ننزلق إلى ما انزلقت إليه اليونان، لأنها عاشت أوضاعاً ملتبسة فى اقتصادها، من هذا الصنف الذى نعيشه، فالمثل الأعلى لنا، يجب أن يكون تركيا.. لا اليونان!