الثورة العرابية 1881 م كانت في جوهرها صراعا اجتماعيا واقتصاديا، حيث الضباط الذين هم من أبناء الفلاحين يتذمرون من امتيازات وحظوة الضباط الذين هم من أصول شركسية وتركية، كذلك حيث الطبقة الناشئة من كبار الملاك الذين هم من أبناء الفلاحين يطمحون للصعود إلى قمة الهرم الاجتماعى الذي يتربع فوقه كبار الملاك من ترك وشركس وغيرهم من المتمصرين، وعندما بلور أستاذ الجيل أحمد لطفى السيد مفهوم مصر للمصريين في مواجهة الصراع بين العثمانيين والإنجليز حول السيادة على مصر فإنه- من الناحية العملية- كان يعنى أن مصر لبعض المصريين، أي للطبقة المستجدة من الأعيان الذين هم كبار الملاك في الريف، وبالفعل كانت مصر لبعض وليست لكل أبنائها، لهذا عندما قرر ضباط يوليو 1952 سحق الطبقة العليا وحرمانها من امتيازاتها وجدوا ترحيبا حارا من باقى الطبقات. الضباط وكبار الملاك كانوا شركاء وحلفاء في الثورة العرابية، ثم انفرد كبار الملاك بثورة 1919 متحالفين مع الطبقات الوسيطة الصاعدة من التجار في المدن والمتعلمين الجدد من محامين ومعلمين وأطباء ومهندسين وغيرهم، ثم انفرد الضباط بثورة 1952 متحالفين مع الشرائح الدنيا من الطبقات الوسيطة في حقبتها الناصرية ثم زاغت- بالتدريج- عنهم، ثم تركتهم يواجهون مصائرهم الحزينة في مناخ اجتماعى يشهد تقلبات حادة وتغيرات عاصفة. لقد عُدنا من جديد إلى أن تكون مصر لكل المصريين نظريا لكنها لبعض المصريين في أرض الواقع. طفل في السادسة من عمره أصابه السرطان، ذهبتُ به إلى طبيب عيادته في أحد المستشفيات الزجاجية الفندقية الرأسمالية في القاهرة الجديدة، دخلنا من الباب فسألنى الطفل: هو دا مول؟!، وأخذت أرقب كل شىء، ولما التقيت الأستاذ الكبير في الطب قلت له أولى ملاحظاتى: إن طواقم الأطباء أكثرهم ليسوا من طب قصر العينى ولا عين شمس ولا الإسكندرية ولا غيرها من كليات الطب المعتبرة عندنا، وقلت له هذا تخمين فقط، قال: ملاحظتك صحيحة، وأخذ يشرح لى ما جرى للطب من تدهور ضمن ما جرى للتعليم عموما وللبلد كله منذ ذهبنا إلى صندوق النقد الدولى مطلع تسعينيات القرن العشرين. الدولة الحديثة، حاضرا ومستقبلا- هي باختصار- دولة المواطن، لم تعد- كما كانت قبل مائة عام- دولة نموت نموت ويحيا الوطن، ولم تعد دولة الاستقلال التام أو الموت الزؤام، هذا تراث نعتز به، لكنه عملة أو نقود قديمة لا سوق لها في وقتنا. يلزم التوازن بين أمرين: حق الوطن، والحق في الوطن، فلا وطنية دون حقوق ناجزة. نستكمل غدا بإذن الله.