يظن الكثيرون أن المنصب الذى يشغلونه يمنحهم صلاحيات لا حدود لها وحصانة دائمة وحقًا فى الإفلات من المحاسبة، وتشهد كتب التاريخ على الكثير من الأنظمة التى استخدم قادتها منصبهم كغطاء قانونى أو سياسى لحماية أنفسهم من الملاحقة بعد ارتكابهم جرائم فى حق شعوبهم وبحق الإنسانية. وعلى الرغم من التطور الكبير فى منظومة العدالة الدولية، لكن حتى اليوم لا يزال كثير من مرتكبى هذه الجرائم يفلتون من العقاب ليظل الجدل مطروحا حول حصانة المنصب أمام المساءلة والمحاسبة وهى القضية التى تشغل المحامى والمستشار البريطانى فيليب ساندز أستاذ القانون الدولى بجامعتى لندن، وكمبريدج، والذى كان أحد أعضاء الفريق القانونى الممثل لفلسطين مطلع العام الماضى فى جلسات محكمة العدل الدولية فى لاهاى بشأن العواقب القانونية للاحتلال الإسرائيلى للأراضى الفلسطينية والذى اختتم مرافعته بقوله: «إن قيام الدولة الفلسطينية لا يعتمد على موافقة إسرائيل؛ فالقوة القائمة بالاحتلال لا تملك- ولا يمكن أن تملك- النقض على حق الشعب الفلسطينى فى تقرير المصير، والذى يفرض على الدول الأعضاء فى الأممالمتحدة أن تعمل على إنهاء الاحتلال الإسرائيلى فورا. لا مساعدة، لا دعم، ولا تواطؤ أو مساهمة فى الأفعال القسرية، لا أموال، لا سلاح، لا تجارة، فجميع الدول الأعضاء فى الأممالمتحدة ملزمة قانونا بإنهاء الوجود الإسرائيلى على أراضى فلسطين». وفى حواره مع مجلة Prospect البريطانية عقب المرافعة قال: «أتمنى أن تعترف الحكومة البريطانية بالدولة الفلسطينية، لا أفهم لماذا ينبغى أن يكون لإسرائيل رأى فى هذا الأمر؛ فقبل نحو 80 عاما قررت الجمعية العامة تحديد إسرائيل وفرضت ذلك على العالم وعلى الشعب الفلسطينى فلماذا لا نتبع النهج نفسه الآن مع فلسطين؟». وخلال الأسابيع الماضية أصدر فيليب ساندز كتاب 38 Londres Street: On Impunity Pinochet in England and a Nazi in Patagonia «38 شارع لندن: حول الإفلات من العقاب بين بينوشيه فى إنجلترا، والنازى الهارب فى باتاجونيا» والذى يعد الكتاب الثالث من ثلاثية تتناول الإفلات من العقاب، والتى بدأها ساندز بكتاب East West Street «شارع الشرق والغرب» والذى استعرض فيه نشأة مفاهيم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية، ثم كتاب The Ratline «خط الفئران» فى إشارة إلى الطرق التى استخدمها ضباط النازية للهروب من المحاكمات، ثم الكتاب الأخير 38 Londres Street والذى اختار اسمه ليشير إلى عنوان المبنى الذى كان فى الأصل مقرا للحزب الاشتراكى التشيلى، ثم تحول إلى مركز تعذيب سرى تابع لجهاز المخابرات التشيلى المعروف باسم DINA بعد الانقلاب الذى قاده أوجستو بينوشيه عام 1973 وأصبح الآن نصبا تذكاريا للضحايا والمختفين قسريا. ويجد المحامى فيليب ساندز أن كتابه «38 شارع لندن» يناقش أهم قضية جنائية دولية منذ محاكمات نورمبرج وهى قضية محاكمة بينوشيه فى عدد من القضايا تتعلق بجرائم الحرب وانتهاك حقوق الإنسان؛ فلم يسبق أن تم اعتقال رئيس دولة سابق فى بلد آخر بناء على حكم قانونى من دولة ثالثة بسبب جرائم ذات طبيعة دولية. القصة بدأت حينما ظن الرئيس التشيلى الأسبق أوجستو بينوشيه أنه سيقابل بحفاوة كبيرة عندما يسافر إلى لندن عام 1998 وعمره 82 عاما لإجراء جراحة بسيطة فى ظهره، ليس بسبب كونه رئيسا سابقا فحسب، لكن أيضا لعلاقاته القوية برئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارجريت ثاتشر وحزب المحافظين ودعمه لهم فى حرب فوكلاند، لكنه فوجئ بضباط من سكوتلانديارد داخل المركز الطبى بعد إجراء الجراحة يلقون القبض عليه بناء على طلب تسليم من القاضى الإسبانى بالتسار جارثون، الذى وجهه له اتهامات بارتكاب جرائم تعذيب وقتل واختفاء قسرى ضد معارضيه السياسيين أثناء حكمه، ومن ضمنها أن بينوشيه كان المسؤول الأول فى «عملية كوندور» الخاصة بتصفية الناشطين اليساريين التشيليين اللاجئين خارج البلاد إضافة إلى المعارضين للديكتاتوريات العسكرية الأخرى فى أميركا اللاتينية. وأثارت القضية وقتها اهتماما عالميا، وقلقا داخل حزب العمال الحاكم، والحكومة البريطانية التى كان يرأسها وقتها تونى بلير والذى كان يعتبر هذه القضية صداعا مستمرا للحكومة فنقلت عنه بعض المصادر قوله إن مصير بينوشيه فى يد وزير الداخلية البريطانى جاك سترو، وهو الوحيد القادر على رفض طلب القضاء الإسبانى. وقال «ساندز»: إنه فى هذه الفترة تواصل معه فريق بينوشيه للدفاع عنه قانونيا، وأنه عندما أخبر زوجته هددته بالطلاق إذا تولى هذه القضية، خاصة وأن ابن عمها كان قد تم اختطافه فى أحد شوارع سانتياجو عام 1976 وعثر على جثته بعد يومين، كما أن والد زوجته، وهو ناشر، كان يعمل على مقترح لكتاب مع أورلاندو ليتيلير، وهو دبلوماسى سابق فى حكومة رئيس شيلى الأسبق سلفادور الليندى، اغتاله عملاء بينوشيه فى واشنطن بتفجير سيارته، وانتهى الأمر بساندز أنه رفض أن يكون عضوا فى فريق بينوشيه بل وذهب إلى الجانب الآخر وبدأ العمل على القضية لصالح هيومان رايتس ووتش. واستمر الجدل القانونى حول قضية بينوشيه 17 شهرا بين محاكم بريطانيا وإسبانيا، وما إذا كان يمكن محاكمة رئيس دولة سابق خارج بلده أم لا، ومدى امتياز الحصانة القانونية التى يمكن أن يحظى بها رئيس دولة سابق، وهل يمكن محاسبته على الجرائم الدولية مثل التعذيب أو الجرائم ضد الإنسانية، وزادت صعوبة القضية حينما قضى أعضاء مجلس اللوردات ذوو الاختصاص القضائى بإمكانية تسليمه إلى إسبانيا، ولكن تم نقض القرار عندما تبين أن أحد القضاة، لينى هوفمان، على صلة بمنظمة العفو الدولية، التى كانت إحدى الجهات المشاركة فى القضية. وفى النهاية أعلنت بريطانيا أن بينوشيه «غير لائق طبيا» للمحاكمة، فتم الإفراج عنه وعاد إلى تشيلى، وهو القرار الذى أبدى جاك سترو وزير الداخلية ندمه عليه بعدها بسنوات وأن هناك فرقا بين الإفلات من العقاب والحصانة. وأوضح المحامى البريطانى الشهير فى كتابه، أن السلطات البريطانية لم تكن مهتمة بحوادث الخطف والقتل والتعذيب التى وقعت فى أمريكا الجنوبية تحت حكم نظام بينوشيه الذى استولى على السلطة فى انقلاب عام 1973، فى الوقت الذى تتعالى فيه أصوات أهالى الضحايا والحقوقيين بأن الطغاة لا يجب أن يموتوا فى سلام على فراشهم ووسط أسرهم، وأن يفلتوا من الجرائم التى ارتكبوها مستفيدين من النظام القانونى ذاته الذى تجاهلوه عندما كانوا فى السلطة. وفى 3 مارس عام 2000 هبطت الطائرة التى حملت أوجستو بينوشيه فى سانتياجو عاصمة تشيلى، وظهر الرئيس السابق على كاميرات التليفزيون وهو يجلس مبتسما على كرسى متحرك ويدفعه مرافقوه إلى مصعد حتى ينزل من الطائرة، وبمجرد أن لمس كرسيه المتحرك أرض المطار نهض بينوشيه واقفا ليعانق أحد زملائه العسكريين بحرارة، فى مشهد يهدم فرضية عدم تسليمه بسبب وضعه الصحى وظهر كما لو كان يتحدى الجميع ويقول إنه فوق المحاسبة، حتى لو كان قد اضطر لترك المنصب الرئاسى عام 1990. وفى تشيلى عاد الجدل حول الحصانة التى يتمتع بها بينوشيه كرئيس سابق، لكنه واجه اتهامات بعدة تهم منها قيادة والإشراف على عمليات قتل المعارضين أو حالات الاختفاء القسرى، والتعاون مع أنظمة عسكرية فى أمريكا اللاتينية لتصفية المعارضين، وأيضا الفساد المالى وامتلاك حسابات مصرفية فى الخارج بقيمة قد تصل إلى 26 مليون دولار، وهى التهم التى كانت سببا فى إصدار القاضى التشيلى جوسمان حكما يقضى بوضعه قيد الإقامة الجبرية، إلا أن محكمة الاستئناف فى سانتياجو قبلت نقش الحكم وأسقطت جميع التهم الصادرة بحق بينوشيه كما ألغت فرض الإقامة الجبرية عليه، حتى توفى عام 2006 عن عمر 91 عاما دون أن يصدر حكم بإدانته فى أى من هذه القضايا، وحتى وفاته أثارت ردود فعل متباينة ما بين مظاهر احتفالية من معارضيه والحقوقيين، وغضب أنصاره من عدم إجراء مراسم تشييع رسمية أو إعلان الحداد الوطنى على الرئيس الراحل. وفى نهاية عام 2018، أصدرت المحكمة العليا فى تشيلى - بعد ما يزيد على عقد من وفاة بينوشيه- حكما بمصادرة ممتلكات تعود إليه وتقدر قيمتها ب 1.6 مليون دولار وذلك فى قضية مصرف ريجس فى الولاياتالمتحدة، والذى كان يخفى فيه بينوشيه جزءا من ثروته، وذلك بعد قبول الاستئناف على حكم فى نفس القضية صدر عام 2017، وينص على إعادة خمسة ملايين دولار تمت مصادرتها عام 2004 إلى عائلة بينوشيه، وبذلك سمحت المحكمة العليا فى تشيلى لعائلته بالاحتفاظ بالجزء الأكبر من هذه الممتلكات. ومن المفارقات الغريبة التى كشفها المحامى البريطانى فيليب ساندز، فى كتابه: كانت العلاقة التى جمعت بين بينوشيه وفالتر راوڤ، وهو ضابط فى القوات الخاصة النازية المعروفة باسم SS، وكان راوڤ قد أشرف على تطوير شاحنات الغاز فى أوروبا الشرقية، وبعد الحرب العالمية الثانية، هرب راوڤ إلى الإكوادور مستخدما «خطوط الجرذان» النازية السابقة، ومنها إلى باتاجونيا حيث أدار مصنعا لتعليب الكابوريا وهناك تعرف للمرة الأولى على بينوشيه، وجمعتهما معاداة الشيوعية، وفى هذه الأثناء عندما وصلت لألمانيا الغربية أخبار وجوده فى تشيلى طالبت بعودته لمحاكته عام 1962، إلا أن المحكمة العليا فى تشيلى قضت بأن مدة التقادم البالغة 15 عاما على جرائمه قد انتهت، وعندما قام وقع الانقلاب فى تشيلى تفاخر فى رسالة إلى ابن أخيه كتب له فيها: «أنا محمى كنصب تذكاريى»، وعاش راوڤ بحرية حتى وفاته عام 1984، دون أن يحاسب قط، بل يقال إنه قدم خدمات أمنية لنظام بينوشيه لاحقا تحديدا فى حالات الاختفاء واستخدام شركة تعليب المنتجات البحرية فى إخفاء ونقل الجثث. وتبرز نقطة الالتقاء التى جمعت الرجلين بالنسبة لفيليب ساندز أن كلاهما ارتكبا جرائم بحق الإنسانية ولم يبديا للحظة ندمهما، بل أنهما قاتلا بكل الطرق حتى لا تتم محاكمتهما على هذه الجرائم، وأن الحدود بين Impunity أى الإفلات من العقاب دون محاسبة، وImmunity وهى الحماية القانونية التى تمنع الملاحقة بدأت تتلاشى؛ فالقانون، الذى منح الرؤساء حصانة، صار الأداة التى تستخدم لخرق العدالة أو تطبيقها حسب المصلحة، وأنه أصبح من الضرورى الاعتماد على مبدأ الولاية القضائية العالمية التى تضمن منع الانتهاكات الخطيرة للقانون الدولى الإنسانى، والتحقيق فيها حال وقوعها، والحد منها إذا أمكن. وأشار الكاتب إلى أن هؤلاء الأشخاص لديهم قدرة كبيرة على التلاعب؛ ففى الوقت الذى ادعى راوف أنه كان ينفذ الأوامر فحسب، أصر بينوشيه فى دفاعه على أنه لا يعرف ما يفعله مرؤوسوه، رغم وجود أدلة كافية على أنه كان يختار الضحايا شخصيا ويوافق على الأساليب الوحشية لتصفيتهم. وينتهى فيليب ساندز إلى أن راوف توفى عام 1984، وتوفى بينوشيه عام 2006، ولم يبد أى منهما ندما، ولم يحاكم أى منهما، وبعد موته تم الكشف عن امتلاك بينوشيه- الذى وصفه السياسى البريطانى المحافظ نورمان لامونت ب«الجندى الشريف»- 26 مليون دولار فى حسابات مصرفية أمريكية بأسماء متعددة، بينما كانت حكومة المملكة المتحدة قد دفعت 980 ألف جنيه إسترلينى لتغطية تكاليف قضيته فى الشهور التى قضاها على الأراضى البريطانية.