«إذا أحبْبْتَ فلا تُكثِر»!

عندما يشرع المؤرخ فى كتابة تاريخ فترة زمنية أو حدث ما، فإن من أدواته التى يتسلح بها الوثائق والسجلات والمخطوطات والكتب والمقالات العلمية. ومع تقدم التكنولوجيا، ظهر سلاح جديد هو«اليوتيوب»، الذى يمكن عن طريقه استدعاء تصريحات هذا المسؤول أو تلك الشخصية العامة بالصوت والصورة لتأكيد موقف أو توجه معين. أصبحت الفيديوهات التى يبثها «اليوتيوب» وثيقة شديدة الأهمية يستطيع المؤرخ، عن طريقها وبعد التأكد من صحتها بالطبع، أن يطمئن إلى صحة استنتاجاته.
قبل أيام، أصدر الرئيس قرارين مهمين، الأول: رد قانون الإجراءات الجنائية إلى مجلس النواب، والثانى: العفو عن عدد من السجناء، بينهم الناشط علاء عبدالفتاح. قانون الإجراءات الجنائية أخذ مساحة كبيرة من النقاش والشد والجذب بين القوى السياسية والمجتمع المدنى، خاصة نقابات المحامين والصحفيين والمهندسين، التى كانت لها ملاحظات جوهرية على مشروع القانون. لست هنا فى وارد تكرار ملاحظات النقابات وبعض الشخصيات العامة على بعض بنود المشروع.. لكن ما أتذكره جيدا رد الفعل الحاد والعنيف أحيانا من جانب برلمانيين وإعلاميين اعتبروا أن مشروع القانون الذى مرره البرلمان تنطبق عليه مقولة «ليس فى الإمكان أبدع مما كان».. لكن عندما قرر الرئيس رد القانون، تبارت تلك الشخصيات فى الإشادة بالخطوة الرئاسية وأهمية إعادة النقاش فى عدد من البنود التى أبدت النقابات والأحزاب رفضها لها. بعض المسؤولين والنواب والإعلاميين أيضاً غيروا تماما مواقفهم السابقة التى يمكن التعرف عليها من خلال وثيقة «اليوتيوب».
الأمر نفسه حدث مع الإفراج عن علاء عبدالفتاح. حتى أيام قليلة، كان مجرد ذكر اسمه أو المطالبة بالإفراج عنه يُقابل بهجوم إعلامى كاسح. بعض الإعلاميين والصحفيين رسخوا فى الأذهان أن الإفراج لن يحدث أبداً. غلبت المواقف والتوجهات على المهنية التى تتطلب أن تكون هناك مسافة بين الإعلامى والقضية التى يتناولها، واستبعاد الانحيازات الشخصية والتركيز على الوقائع والحقائق. كما أن المهنة تدعو أيضا إلى عدم إصدار أحكام نهائية قاطعة فى شأن إنسانى يمكن أن يتغير بتغير الظروف. بعض كبار المهنة كان يحذر الصحفيين من استخدام أفعل التفضيل، كأن نقول هذا هو الأفضل أو ذاك الأسوأ. الشخصية الإنسانية معقدة ومتقلبة، ومن نعتقد أنه الأحسن قد يثبُت فيما بعد أنه غير ذلك، والعكس صحيح.
بالطبع، ستكون هناك دائما انحيازات، فلا حياد مطلق فى مهنة تعتمد على الرأى. لكن المطلوب التعامل بعقل بارد وقلب حار مع القضايا الإنسانية. من حق الإعلامى الجهر برأيه، لكن عليه ألا يتحول إلى داعية أو أيديولوجى لا يهمه فقط سوى تأكيد ما يؤمن به. وضع مسافة بينه وبين القضية مهم للغاية. هناك مقولة منسوبة للإمام على بن أبى طالب تقول: «أحبب حبيبك هونا ما (أى بوقار وهدوء)، فعسى أن يكون بغيضك يوما ما. وابغض بغيضك هونا ما، فعسى أن يكون حبيبك يوما ما». ويقول أيضا: «إذا أحببت فلا تُكثِر». الدنيا تتغير، وما قد يكون مستحيلا أمس، يمكن أن يحدث اليوم أو غدا. ربما لو طبقنا تلك النصيحة لتجنبنا أن يتم استخدام سلاح «اليوتيوب» ضدنا.
aabdelsalam65@gmail.com