فى الوقت الذى تتوسع فيه المؤسسات نحو الرقمنة كأداة لتقليص التكاليف وتقليل الاعتماد على العنصر البشرى، تكشف المؤشرات داخل القطاع المصرفى المصرى عن مسار مختلف، فرغم التوسع المتسارع فى الخدمات الرقمية، وتنامى استخدام المحافظ الإلكترونية والتطبيقات الذكية، فإن البنوك المصرية تواصل زيادة أعداد العاملين بها، وتستمر فى افتتاح فروع جديدة، فى ظل احتياجات سوق واسعة ومتجددة. وارتفع عدد العاملين بالبنوك إلى 144.8 ألف موظف بنهاية ديسمبر 2024، مقارنة بنحو 140.5 ألف فى ختام العام السابق عليه، فى حين وصل عدد الفروع إلى 4775 وحدة بنهاية العام الماضى، مقابل نحو 4680 فرعا فى ديسمبر 2023. خبراء مصرفيون عزوا هذه الظاهرة إلى عوامل عدة، منها أن الرقمنة لم تُلغِ الحاجة للكوادر البشرية بل أعادت تشكيلها، وأن التوسع الجغرافى والشمول المالى لا يزالان يتطلبان حضوراً بشرياً، إضافة إلى أن ثقافة العملاء المحليين لا تزال تفضل التعامل المباشر، لا سيما فى المنتجات المعقدة. وفيما تستمر بعض البنوك فى إعادة تأهيل العمالة الموروثة بالتوازى مع ضخ دماء جديدة مدربة رقمياً، يتجه القطاع تدريجياً نحو توظيف الكفاءات القادرة على إدارة وبيع المنتجات الرقمية، تمهيداً لمرحلة أكثر نضجاً من التحول الرقمى خلال السنوات المقبلة. وفى هذا الصدد، أكد الخبير المصرفى هانى حافظ، أن التحول الرقمى المتسارع فى البنوك المصرية لم يؤدِ إلى تقليص عدد العاملين كما كان متوقعاً، بل ساهم بشكل غير مباشر فى زيادة التوظيف داخل القطاع المصرفى، وذلك على عكس الرؤية التقليدية التى تربط الرقمنة بتراجع حجم العمالة. وأوضح أن البيانات الصادرة عن البنك المركزى المصرى تعكس نموًا مستمرًا فى أعداد الموظفين بالبنوك خلال السنوات الأخيرة، رغم التوسع الملحوظ فى تقديم الخدمات المصرفية الرقمية، ما يؤكد أن الرقمنة لم تُلغ الحاجة إلى العنصر البشرى، بل أعادت تشكيل دوره. وأشار حافظ إلى أن هناك عوامل عدة تقف وراء هذا الاتجاه، على رأسها توسع البنوك فى المناطق الريفية ضمن جهود الشمول المالى، وهو ما يستدعى افتتاح فروع جديدة وتعيين موظفين لتقديم الاستشارات المصرفية وخدمة العملاء، خاصة لأولئك الذين لا يزالون يفضلون التعامل المباشر. وأضاف أن الطبيعة الثقافية للمجتمع المصرى لا تزال تُفضل الحضور البشرى فى التعاملات المالية، لاسيما فى الخدمات المعقدة مثل القروض وتمويل المشروعات الصغيرة، ما يدفع البنوك إلى تبنّى نموذج «هجين» يجمع بين التكنولوجيا والعنصر البشرى، ويعزز من الطلب على الكوادر البشرية المدربة. وفيما يتعلق بتأثير القنوات الرقمية على هيكل القوى العاملة، قال «حافظ» إن الرقمنة أحدثت تحولات جذرية فى طبيعة الوظائف داخل البنوك، أكثر من تأثيرها في أعداد الموظفين، مشيرًا إلى أن العديد من المهمات التقليدية تطورت إلى أدوار متخصصة، مثل إدارة تجربة العملاء الرقمية وخدمة الدعم الفنى، إلى جانب وظائف ظهرت حديثاً تتعلق بالبنية التحتية الرقمية والأمن السيبرانى. لفت إلى أن البنوك لم تتخل عن العاملين، بل بدأت فى إعادة تدريبهم وتأهيلهم، مشيراً إلى برامج مكثفة أطلقتها بعض المؤسسات المصرفية لتأهيل موظفيها على إدارة التحول الرقمى، ومراقبة الاحتيال الإلكترونى، والتكامل مع شركات التكنولوجيا المالية. وأضاف أن هذا التوجه لا يقتصر على مصر، بل يشابه تجارب دول متقدمة مثل ألمانيا وبريطانيا، حيث أصبح «التأهيل الرقمى» عنصراً أساسياً فى سياسات الموارد البشرية. وأكد حافظ أن الرقمنة ساهمت أيضاً فى إتاحة وظائف جديدة بالكامل داخل البنوك، مثل اختصاصى تحليل البيانات، وخبراء الأمن السيبرانى، ومطورى الأنظمة، ومديرى التحول الرقمى. وأشار إلى أن هذه الأدوار لا تُستبدل بوظائف تقليدية بالعدد نفسه، بل تتطلب فرق عمل متكاملة، ما يُنتج زيادة صافية فى معدلات التوظيف. وذكر حافظ أن مستقبل العمالة فى البنوك المصرية سيكون «هجيناً»، يجمع بين التقنية والعنصر البشرى، مشيراً إلى أن النمو الحالى فى التوظيف قد يتباطأ مستقبلاً مع نضج التجربة الرقمية، وشدد فى الوقت نفسه على أن البنوك ستظل بحاجة إلى العنصر البشرى، وإن كان بأدوار جديدة أكثر تخصصاً وتقدماً. من جانبه، قال الخبير المصرفى محمد بدرة، إن الخدمات المصرفية فى مصر لا تزال تعتمد بشكل رئيسى على العنصر البشرى، رغم التقدم الكبير فى التحول الرقمى، مشيراً إلى أن السوق المصرية تتميز باتساعها ونموها السكانى السريع، ما يتطلب مواصلة التوسع فى الفروع لتلبية احتياجات قاعدة العملاء المتزايدة. وأوضح أن السوق المحلية تشهد زيادة سكانية تقارب مليونى نسمة سنوياً، ما يفرض على البنوك ضرورة تعزيز انتشارها الجغرافى لضمان إيصال الخدمات المصرفية لمختلف شرائح المجتمع، خاصة فى ظل عدم انتشار الرقمنة بشكل كافٍ بعد. وأشار «بدرة» إلى أن انتشار الخدمات الرقمية والاعتماد عليها بشكل أوسع، كما يحدث حالياً فى دول الخليج، من شأنه مستقبلاً أن يؤدى إلى تقليص عدد الفروع تدريجياً، إلا أن هذا التحول لا يزال فى بداياته، ويتفاوت انتشاره بين الفئات العمرية، إذ يقبل عليه الشباب بدرجة أكبر من كبار السن. وأضاف أن هناك عاملا آخر يجب أخذه فى الاعتبار، وهو وجود أعداد كبيرة من العاملين الموروثين داخل الجهاز المصرفى المصرى، والذين يحتاجون إلى بعض الوقت حتى بلوغ سن التقاعد، وهو ما يجعل التغيير فى هيكل العمالة يتم بشكل تدريجى. وفى الوقت نفسه، أشار إلى أن البنوك المصرية بدأت بالفعل فى ضخ دماء جديدة من الكفاءات المدربة، وخصوصاً فى مجال المبيعات المصرفية، إذ تركز على تعيين موظفين يمتلكون مهارات رقمية وقدرة على التعامل مع مختلف شرائح العملاء باستخدام أدوات التكنولوجيا الحديثة. وأكد بدرة أن المستقبل يتجه نحو تعزيز التوظيف فى الفئات القادرة على بيع المنتجات الرقمية والتعامل مع الأنظمة الذكية، وهو ما يتطلب نمطاً جديداً من العاملين يمتلكون خبرات تقنية ومهارات تسويقية متقدمة تتماشى مع متطلبات التحول الرقمى. من جانبها أكدت الخبيرة المصرفية سهر الدماطى أن التحول الرقمى فى القطاع المصرفى لم يؤدِ إلى تقليص أعداد العاملين بالبنوك، مشيرة إلى أن التكنولوجيا لم تأتِ بديلاً للعنصر البشرى، بل جاءت مكملة له، وأن هناك إدارات حيوية داخل البنوك لا تزال تعتمد بشكل أساسى على الكوادر البشرية، مثل إدارات الائتمان والمخاطر. وأوضحت «الدماطى» أن القطاع المصرفى المصرى بدأ فى تبنى الرقمنة منذ فترة طويلة، لكنه ظل محافظًا على التوازن بين التوسع التكنولوجى والاحتفاظ بالعنصر البشرى، لافتة إلى أن طبيعة السوق المصرية، بما فيها من توسع سكانى كبير وارتفاع فى الكثافة العمرانية، تستدعى التوسع الجغرافى وافتتاح مزيد من الفروع، سواء من البنوك أو من شركات التمويل، لضمان تغطية مختلف الشرائح السكانية. وأضافت أن البنوك لا تتخذ قرارات التوسع وافتتاح الفروع بشكل عشوائى أو سنوى، بل وفق خطط إستراتيجية طويلة الأجل، يتم إعدادها بناءً على دراسات دقيقة للمنطقة الجغرافية، والكثافة السكانية، والجدوى الاقتصادية، فضلاً عن الخطط التوظيفية. وذكرت أنه قد يتم افتتاح 50 فرعًا فى عام واحد، ثم تتراجع الوتيرة فى العام التالى إلى 20 فرعًا أو أقل، بحسب الخطة المعتمدة. وشددت الدماطى على أن التكنولوجيا أصبحت ضرورة فى ظل التوجه نحو الشمول المالى وزيادة إقبال فئة الشباب على التعاملات الرقمية، ما دفع البنوك لتكثيف استثماراتها فى البنية التكنولوجية وتطوير الخدمات الرقمية، ومع ذلك، فإن الحاجة إلى العنصر البشرى لا تزال قائمة وبقوة، خاصة فى تقديم الخدمات الاستشارية، والتعامل المباشر مع العملاء، والتقييمات الائتمانية.